عندما اجتاح العالم الغربى رياح الثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر، وقام الذراع الفولاذى بطرد الذراع البشرى من المعامل وأخذت الانسانية ترفع ضريبة التقدم المادى، كالبطالة الدورية – مما أدى إلى ازدياد شروط قبول العمال قسوة البشرية وبعداً عن الإنسانية، إلى أن أصبح العمل عبودية بعد أن كان كتاب القرون الوسطى يعتبرونه عبادة وصلاة.
حيث تحول العالم فى ظل الآلية والحضارة الصناعية إلى آلة، فهو يقضى حياته يكرر الإشارات والحركات نفسها آلاف المرات كل يوم، فهو يضع قطعاً مفردة ولكنه لا يصنع وحدة كاملة مطلقاً، أى كان غير مسموح له باستعمال عقله، إنه الحصان الأعمى – كما يقول " الكسى كاريل" – الذى يدور فى دائرة واحدة طول النهار، فلقد ارتكبت المدنية الصناعية خطأ كبير بتضحية العقل والكرامة الإنسانية فى سبيل الإنتاج والحضارة المادية. وكان من الطبيعى أن يولد البؤس والفقر والترف من جهة مقابلة.
وأن يثير حفيظة المعذبين فى الأرض، فتخلد الأحقاد، وتنفجر الثورات، وتنشب الحروب فتفقد الانسانية الاستقرار والحرية والسلام.
وأدت تلك الحروب إلى رخص قيمة الحياة الانسانية لكثرة مادحرجت من رؤوس وما أزهقت من الروح، وحطمت الايمان بالعناية الالهية وانتزعت من الضمير سند العقيدة الدينية!.
وكان من الطبيعى أن يوقن المفكرون والمصلحون بأن نظام الحرية الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والسياسية هم المسئولون عن كل مآسى البشرية. ولما كانت آلام المخاض لا تحول دون حتمية الميلاد، فقد أخذت الأفكار والمذاهب تثب من عقول المفكرين والمصلحين الذين طال خلافهم حول اقتراح الأسس الكفيلة بإعادة تنظيم المجتمع واتباع الطرق الموصلة إلى "العدالة الاجتماعية" فى الأرض.
وهنا بدأ صراع الأفكار، وتشبعت النظريات والمذاهب، فمن قائل أن العالم فى أزمة بؤس طبقى، فنادى بسن قوانين اصلاح اجتماعى توفر شروط عمل وحياة انسانية لائقة بين البشر، وأن تؤدى الدول دورها الحقيقى فى تنظيم الانتاج وتوزيعه على المجتمع فى صورة أكثر عدلاً ومنهم من رأى أن إعادة تنظيم المجتمع يجب أن تتم بين الأفراد على أساس التعاون المشترك دون الحاجة إلى الاعتماد على تدخل الحكومات أو الدول أو إعطائها أى دور فى هذا التنظيم الجديد.
ومن هنا ولدت المدارس الاقتصادية الرأسمالية الحرة والمدارس الاشتراكية المتدخلة، وبدأ العالم يعرف الفصل والمزج بين الممارسات السياسية والاقتصادية وأثرها فى حياة الانسانية.