بداية لابد من التأكيد على سيادة كل دولة فى أن تقرر ما تشاء بما يتناسب مع متطلباتها وأمنها، بما لا يخل بالأمن الإقليمى، وأمن دول الجوار أيضا، لكن هذا لا يمنع من بحث ومناقشة قرارات بعض الدول خاصة إذا رأينا أنها تسير فى اتجاه ربما يكون له تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة على الأمن الإقليمى.
ما سأتحدث عنه اليوم، هو ما أعلنه الرئيس السودانى عمر البشير، فى حديث أجرته معه وكالة الأنباء الروسية العامة «ريا نوفوستى»، أنه بحث خلال لقائه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، الخميس الماضى، إقامة قاعدة عسكرية روسية، على البحر الأحمر، مع التأكيد: «لا ننوى مهاجمة أحد فى الخارج، وإنما نريد حماية بلادنا»، ومن الواضح أن هذه القاعدة كانت مقترحا من البشير وليس من الروس، بدليل أن السيناتور فرنتس كلينتسيفيتش، النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع والأمن فى المجلس الاتحادى الروسى، قال: «شخصيا، لا أرى أى سبب يدفع روسيا إلى تجاهل دعوة الجانب السودانى إذا ما تم طرحها»، معبرا عن قناعته بأن «الوجود العسكرى الروسى على أساس دائم فى تلك المنطقة سيشكل عامل استقرار»، وأن الولايات المتحدة «خلفت ذكرى سيئة فى تاريخ عدد كبير من الدول، ومنها السودان، لذلك فإن السعى للاعتماد على قوة تعارض السياسة الأمريكية أمر طبيعى»، كما أن يورى شفيتكين، نائب رئيس لجنة الدفاع فى مجلس الدوما، قد أكد أيضا إن القاعدة العسكرية الروسية فى السودان قد تظهر بعد نصف عام، فى إشارة منه إلى الوقت الذى يتطلبه إنشاء القاعدة، وأكد أن هذه المسألة تبقى رهنا بالقرار السياسى.
واتساقًا مع حديث البشير، قال وزير خارجيته إبراهيم غندور، إن الرئيس عمر البشير طلب من روسيا حماية البلاد بمواجهة الاستهداف الذى تتعرض له من قبل دول غربية، لم يسمها، منذ عام 1990، واتخذت قرارات متتالية تستهدفه، وقلل من الحديث عن إنشاء قواعد روسية على البحر الأحمر ووصفه بأنه شأن فنى، ووصف الحديث عن قواعد عسكرية روسية على البحر بأنه حديث قديم، وقال «بيننا حديث حول تعاون عسكرى مفتوح، فى سياق أن البحر الأحمر الآن أصبح مكانا مهما جداً، يعجّ بالقواعد العسكرية، وبالتالى الحديث حول تعاون عسكرى بين السودان وروسيا، يهدف إلى توفير الأمن لهذا الممر، والإبقاء عليه معافًى من أى تدخلات أجنبية».
الغريب فى الموقف السودانى الأخير أنه يشير إلى وجود رغبة لدى الخرطوم فى البحث عن ترتيبات أمنية جديدة فى منطقة البحر الأحمر، ترتيبات أمنية من وجهة النظرة السودانية دون الأخذ فى الاعتبار ما يمثله حوض البحر الأحمر من أهمية لبقية الدول المطلة عليه، ويبدو أن البشير الذى يواجه مشاكل داخلية متصاعدة، وربما ينتج عنها تحركات أخرى شبيهة بما قام به الجنوبيون، اعتراضا على سياسات «حكومة الإنقاذ» التى حرمت الجنوبيين من كل مناحى الحياة الكريمة والتى تكفل لهم العيش بحرية وعدالة، لذلك فإن البشير من الواضح أنه يريد الخروج من أزماته الداخلية لطرح موضوعات اشتباكية خارجية، مثل دعوته للروس إلى بحث التدخل الأمريكى فى منطقة البحر الأحمر، من وجهة نظر إمكانية إقامة قاعدة روسية فى المنطقة.
الغريب فى موقف البشير الداعى إلى إقامة قاعدة عسكرية روسية فى السودان، أنه يأتى بعد أسابيع من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية فى السادس من أكتوبر الماضى رفع حظر تجارى واقتصادى كانت قد فرضته على السودان منذ 1997، بيد أنها أبقت عليه فى قائمتها للدول الراعية للإرهاب، وما أعقب ذلك من إعلان واشنطن والخرطوم أن العلاقات بين البلدين ماضية باتجاه التطبيع الكامل، وأن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب يجرى التفاوض بشأنه، وهو ما يشير إلى إرتباك واضح فى السياسة السودانية، التى من الواضح أنها لا تنظر إلا تحت أقدامها فقط، دون النظر إلى المستقبل بعين واعية ومتفحصة لما ستؤول إليه الأمور.
من حق السودانيين، كما قلت، البحث بكل الطرق عن الآليات التى تحمى أمنهم الداخلى والخارجى أيضا، لكن شريطة الا يكون فى ذلك إضرار بالآخرين، وألا يحولوا السودان إلى منطقة لتصفية الخلافات الدولية، نعم لقد ارتضى نظام البشير لنفسه أن يحول بلده إلى شرطى لبعض الدول الإقليمية وتنفيذ أجندتهم التدميرية والتخريبية، وهو ما سيكون له ردة فعل داخلية بطبيعة الحال، لكن أن يصل به المدى إلى دعوة قوى دولية إقليمية لإنشاء قواعد عسكرية أجنبية على أراضيه فهذا أمر يفوق أى تصورات، اللهم إلا إذا كان البشير قد استمع فى ذلك لنصيحة من أمير قطر تميم بن حمد، الذى يرتبط معه بعلاقات وثيقة، كون الخرطوم أحد أدوات قطر فى العبث بأمن دول المنطقة، أخذًا فى الاعتبار أن قطر فتحت أراضيها للقواعد العسكرية الأجنبية، لحمايتها ولاستخدامها فى نفس الوقت كاداة لتهديد جيرانها.