نامت القرية فى تلك الليلة آمنة مطمئنة.. أطفالها يشعرون بالسعادة الإسبوعية المعتادة فى ليلة الجمعة، فغدا يوم الإجازة ولن يستيقظوا مبكرا للذهاب للمدرسة، سيفطرون مع والدهم الأستاذ محمد عبد الحليم مدير مدرسة ميزار الابتدائية بقرية الروضة، وستعد الأم مالذ وطاب على الغداء كما اعتادت يوم الجمعة الذى يشبه يوم العيد.
استيقظ الصغير آدم الذى يبلغ من العمر 3 سنوات مبكرا قبل باقى أفراد الأسرة ذهب ليداعب والده محاولا إيقاظه: "ياللا يابابا علشان نلبس الجلابية البيضا ونروح نصلى الجمعة"
يضحك الأب: "لسه بدرى يا آدم نام وخلينا ننام شوية "
يذهب الطفل إلى دولابه ليحضر جلبابه الأبيض ويحاول إيقاظ والدته: "قومى لبسينى الجلابية علشان أروح مع بابا الجامع"
وأمام إلحاح الصغير تصحو الأم وتحضر الفطور، يستيقظ الأب ويداعب صغيره، بينما لايزال شقيقاه الأكبر إسلام 15 سنة وأحمد 10 سنوات نائمان، تحاول الأم والأب إيقاظهما :" قوموا ياكسلانين آدم صحى من بدرى علشان يصلى الجمعة "
يستيقظ الشقيقان متأخرا، يتناولان إفطارهما بسرعة، بينما يستعد الأب والصغير آدم للذهاب للمسجد " هنروح احنا الأول وابقوا حصلونا " ..هكذا قال لهما الأب وهما يستعدان للاستحمام، يشعر آدم بالفخر لأنه سبق إخوته فى الاستعداد وفاز بصحبة والده إلى المسجد.
يقبل الصغير والدته، بينما تعده الأم بطعام لذيذ بعد عودته " شاطر ياآدم لما ترجع هتلاقينى عاملالك الأكل اللى بتحبه ".
يمضى آدم مع والده إلى مسجد الروضة، يتبادل الأب السلام مع جيرانه الذين خرجوا للصلاة بينما تعج شوارع القرية بالحركة والحياة، وينتشر الباعة فى السوق استعدادا لبيع بضاعتهم التى تلقى رواجا أكثر فى يوم الجمعة بعد إقبال المصلين عليها عقب انتهائهم من الصلاة.
يفرح آدم لأنه ووالده وصلا إلى المسجد مبكرا ووقفا فى الصفوف الأولى، قبل أقرانه الصغار الذين توافدوا مع آبائهم.
يصطف الأطفال بين المصلين بجلابيبهم البيضاء كالملائكة، يقف آدم إلى جوار والده ويحاول تقليده وهو يشرع فى أداء ركعتى تحية المسجد، بينما يصل الشقيقان إسلام وأحمد متأخرا ويقفا فى الصفوف الأخيرة .
تتعالى أصوات الآذان وهمهمات المصلين بالدعاء والتكبير، وفجأة يرج المسجد صوت انفجار وطلقات رصاص، حالة صدمة ورعب وفوضى تصيب المصلين، يحاول بعضهم الاحتماء بالمنبر أو الخروج من المسجد، وفجأة يظهر الشياطين ويطلقون الرصاص على الجميع.
يصرخ آدم ويرتجف رعبا، يحاول الاحتماء بوالده، يمسك الأب بالصغير يخبئه فى حضنه، يجعل من جسده درعا ليتلقى الرصاص بدلا من جسد صغيره، يهمس الأب بصوت ضعيف فى أذن طفله وهو يحتضر: "متخافش يا آدم أنت راجل"
تنفذ عدة رصاصات إلى جسد الأب، الذى يظل ممسكا بطفله حتى النفس الأخير، تغطى دماء الأب جسد الطفل ووجهه، ينظر آدم إلى عينى والده وهو يستقبل الموت، ويرى الرصاص يحصد الأرواح من حوله ومنهم أصدقائه الصغار الذين كانوا يملأون الدنيا ضحكا ولعبا قبل قليل، فيزداد ارتعاش جسده الصغير ولا يستطيع النطق.
يشعر إسلام وأحمد اللذان وقف فى الصفوف الأخيرة للمصلين بالصدمة والرعب، يحاولان الاختباء، ينظران حولهما وسط حالة الهرج والفزع التى أصابت الجميع، يحاولان البحث عن والدهما وشقيقهما الصغير، وهما يشاهدان أصدقائهما وأقاربهما وجيرانهما وقد سقطوا قتلى، وينتبهان لملاحقة القتلة للجميع .
يحاول إسلام حماية شقيقه، يمسك بيده ويشرع فى الخروج من الباب أو القفز من الشباك فيجد الرصاص يلاحق كل من حاول قبلهما، يجذب شقيقه ويسرع إلى دورات المياه، لعله يجد فيها ملجأ يحميهما من الرصاص، يدخل إحدى هذه الدورات ويحتضن شقيقه ويحاول أن يكتم أنفاسه المتسارعة حتى لا يسمعهما القتلة، الذين انتبهوا إلى إمكانية اختباء المصلين بدورات المياه فأخذوا يفتشونها، وقبل أن يصلا إلى الأخيرة التى يختبئ فيها الشقيقان، نادى أحد الإرهابيين على الأخر وأسرعوا بالخروج والهروب من المكان، لينجو الشقيقان من المجزرة.
فى هذه الأثناء يتلقى الأب مزيدا من الرصاص، يرفع وجهه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يستمع إلى الضحايا وهم ينطقون الشهادة، وينظر فيجد القتلة يهتفون" الله أكبر" وهم يطلقون الرصاص على رؤوس الساجدين.
يفوق مقدار الدهشة والصدمة حجم الألم الذى يشعر به الأب، فيناجى ربه :" يارب كيف يذكرون اسمك وهم يزهقون الأرواح ويسفكون الدماء "
وهنا يتذكر الأب ما حدث للفاروق عمر، يغمض عينيه وكأنه يرى أبو لؤلؤة المجوسى وهو يطعن صاحب رسول الله الذى ملأ الدنيا عدلا وهو ساجد فى المسجد، وهنا تسقط الدموع من عينى الأستاذ محمد، ويقول لنفسه: "لكن من قتل الفاروق لم يكن مسلما ولا مسيحيا ولا حتى يهوديا، كان مجوسيا لا يعرف دين الله، لكن من يسفك دمى ويزهق روحى وأنا أصلى ويحاول قتل طفلى مسلم يردد اسم الله بينما يطلق الرصاص على المصلين فى بيت الله "
وهنا يقفز إلى ذهنه ما فعله الخوارج بعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه، فيقول لنفسه :" لست أفضل من ابن عم رسول الله الذى قتله مسلم يحمل نفس أفكار هؤلاء القتلة وقلبا غليظا كقلوبهم فى شهر رمضان وهو صائم، يستعد لصلاة الفجر، ووصفوه بأنه شر الناس، بعدما كفروه وكفروا صحابة رسول الله ونهبوا وسرقوا وقتلوا النساء الحوامل".
وفى اللحظات الأخيرة يسمع القتلة وهم يهللون بصيحات التكبير ويسبون المصلين ويصفونهم بالكفرة، فيبكى ويواسى نفسه بأن من قتلوا عليا وحاصروا عثمان ابن عفان وقتلوه بعدما منعوا عنه وعن أهل بيته الماء والطعام، كانوا خوارج مثل هؤلاء يزعمون أنهم ينفذون شرع الله ويكفرون المسلمين ويحرفون القرآن ويفسرونه على هواهم ولا يعرفون شيئا عن الإسلام ورحمته.
يحتضن الأب ابنه وتتساقط الدموع من عينيه وهو يرى الرعب فى عينيه ودماء المصلين من الأطفال والشيوخ تملأ المكان، ينطق الشهادة وينطلق وكأنه يرى وجوه الصحابة يأخذون بيده إلى الجنة.