"ممكن أنا يكون ليا عمر أدبى طويل ونتاجى فى الفن والأدب قليل القيمة وقليل الأهمية .. وممكن يكون عمرى قصير جدا ومع ذلك أترك أثر وأثر كبير".
تلك نبوءة يحيى الطاهر عبد الله التى جاءت على لسانه فى حوار إذاعى له، كان يدافع عن حق الأدباء الشباب الموهوبين فى نيل التقدير المادى الذى يستحقونه منتقدا تقييم العمل الأدبى بعمر كاتبه، لكنه فى الحقيقة لم يكن يعلم أنه يتنبأ بمستقبله فأصبح –نفسه- واحدا من أولئك الذين تحدث عنهم من أصحاب العمر القصير لكنهم تركوا أثرا كبيرا جدا.
ربما أبحر يحيى الطاهر عبد الله قليلا فى مجموعته القصصية الأولى "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا" إلى الشمال بعيدا عن الصعيد وقريته الأثيرة – الكرنك - لكن فى مجموعته الثانية " الدف والصندوق " الصادرة عام 1974 رفض يحيى مغادرة عالمه الخاص ، فنسج من قصص المجموعة لوحة جنوبية خالصة. لوحة فسيفساء أنيقة ، صاغت كل قصة بداخلها ملمحا من ملامح الجنوب وعاداته ومعتقداته وموروثه الثقافى الخاص، فلعب يحيى خلال تلك المجموعة دور المرشد السياحى ليكشف للقارئ عن مظاهر الحياة اليومية فى قلب الصعيد ، فنرى اعتزاز أهل الجنوب بالنخيل ، بل أنه قد يدخل أحيانا ضمن مظاهر الاحتفاء والتقدير للضيف بالحرص على إطعامه من تمر أفضل نخيلهم ، وإطلاق الأسماء على النخيل وكأنها أحد أفراد العائلة كقصة "العالية".
دار يحيى بحكاياته فى دروب الجنوب متنقلا بين الحب فى قصتى "الوشم" و" الفخاخ منصوبة للمحبين" و حكايات الثأر والموت فى "الدف والصندوق" و"الجثة"، بينما شهدت تلك المجموعة القصصية أول ظهور للبطولة النسائية فى قصص يحيى بعيدا عن شخصية الأم، حيث شكلتا مريم وأمها فى " الدف والصندوق " موقفين متناقضين كانا المحور الرئيسى للقصة بين خوف مريم على شقيقها من عواقب أخذه بالثأر فتقفده كما فقدت أباها ، وبين حث الأم لابنها كى يأخذ بثأر أبيه ، ربما تدور القصة فى الإطار التقليدى لحكايات الثأر فى الصعيد ، لكن شخصية مريم أضفت على القصة بعدا إنسانيا خاصا ربما يبدو للكثيرين مجهولا عن الجنوب، جانبا من المحبة والود النابعين من الغريزة والفطرة فى مواجهة القسوة المميزة للمجتمع الصعيدى.
وفى عام 1978 قرر يحيى التمرد على الكرنك إلا قليلا، فخرجت مجموعته القصصية الرابعة "حكايات للأمير حتى ينام"، التى أبحر فيها بعيدا عن الكرنك أكثر من مرة، وحظيت بعض قصصها بجانب من الخيال برع يحيى فى دمجه بالواقع، وجمع بين كثير من قصصها النهايات المأساوية بينما دار أغلبها فى فلك الحكمة التى جاءت على لسان الراوى فى قصة "حكاية بزخارف" : "دنيا بنت هوى تدير ظهرها لسنين ثم تقبل بوجه ضاحك وجيد مثقل بالأجراس."
فلعب يحيى كثيرا فى قصصها على تيمة تقلب الدنيا أو حسب القول المأثور -دوام الحال من المحال- فنجده يقلب شخصياته بين نعيم الدنيا وشقائها ببراعة أدبية شديدة وأسلوب أكثر تميزا من مجموعاته القصصية السابقة.
فى قصة عبد الحليم أفندى مثلا، يحكى الراوى للأمير كيف تحولت حياة الصبى الصغير بالصدفة من طفل يلهو ويراهن أقرانه على عبور النهر من الشرق للغرب والعودة قبل أن تجف تفلته، ذلك الرهان الصغير غير حياة عبد الحليم إلى الأبد، فما أن عبر النهر حتى غاب هناك ولم يعد. التقى على الضفة الأخرى كبير مطبخ الإنجليز أخذه الرجل وعلمه الحرفة حتى حل محله بعدها وتحول إلى عبد الحليم "أفندى" كبير مطبخ مطار مصر بعد رحيل الإنجليز.
وفى "حكاية الصعيدى الذى هده التعب" يحمل يحيى الصعيد إلى القاهرة متمثلة فى أحلام صعيدى قادم من الجنوب للعمل ينتظر اليوم الذى يرتاح فيه من أعمال البناء ويجلس حارسا على دكة أمام إحدى العمارات بعد الانتهاء من بنائها بينما يلقى نهايته:
"وفى نهار مشمس، وكان يطلع الدعامات الخشبية المربوطة بالحبال وعلى كتفيه حمولة الرمل والأسمنت – طرح صاحبنا وضرب ونسى الحاضر ، قال : لما ننتهى من بناء العمارة سيقعد على بابها عبد الحاكم ونمضى لنبنى العمارة التى سأقعد على بابها أنا فوق دكة من خشب.
فى هذا النهار –يا أميرى- ضيع الصعيدى عمره كما ضيعت بائعة اللبن الحمقاء اللبن.
وفى "حكاية برأس وذيل" عاد يحيى للفقراء المتحايلون على المرض والفقر بالوصفات المجربة وربما الخرافات أحيانا، فيهمس صديق فى أذن "جاد المولى" أن روماتيزم زوجته الذى فشلت كل الوصفات فى علاجه يكمن فى تناول زوجته لحم قطة سوداء، ولأن القطة الموجودة عنده بيضاء أراد التحايل على الأمر فقرر غلى ثمر السنط فى الماء ثم صبغ القطة البيضاء بالماء الأسود المغلى فانتهت مغامرته بعضة أعجزته من القطة الغاضبة فى محاولة منها للدفاع عن نفسها تحول على إثرها إلى أعرج بينما ظلت زوجته كسيحة.
أما "هكذا تكلم الفران" فهى القصة الوحيدة التى تركها يحيى مسجلة بصوته، فكانت تلك إحدى المهارات التى امتاز بها يحيى دون غيره من كُتاب القصة، فما أن تستمع إليه إلا تجده متدفق الحكى بلا توقف كجريان النيل من أقصى الجنوب إلى الشمال. منحة وهبها الله له فدافع عنها أمام انتقاد البعض لها، كما وضح د.جابر عصفور فى مقدمته لكتاب " يحيى الطاهر عبد الله..الأعمال الكاملة" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب حيث ذكر "عصفور" اختلافه فى الرأى مع يحيى حول إلقاء الأخير لقصصه فقال له:
"ولكنك تكتب -فى النهاية- ما تقرأ علينا وعلى غيرنا ولا سبيل إلى الناس حقا إلا عبر الكتابة التى تنشرها الصحيفة أو يجمعها الكتاب. وكنت أتهمه بالمراهقة الفكرية بقدر ما كان يتهمنى بالرجعية فى هذا الموقف تحديدا.
ولكن ما أدركه "عصفور" فيما بعد أن إلقاء يحيى لقصصه كان محاولة منه للوصول إلى جمهوره الحقيقى، من يكتب عنهم.. البسطاء والفقراء الذى يعلم جيدا أن أغلبهم لا يقرأون فكان أسلوب الحكى سبيله إليهم.
أما آخر مجموعات يحيى القصصية المنشورة بعد وفاته كانت "الرقصة المباحة"، والتى واصل فيها يحيى إبحاره نحو الشمال والانجذاب إلى المهمشين والبسطاء فى حارات القاهرة منها قصة "السيد أحمد السيد" و" الغجرى" التى تطرق فيها لجانب من حياة الغجر وطباعهم.
وأطلت المرأة لتلعب دور البطولة من جديد فى قصة "كلام للبحر" فقدم يحيى نموذجا مغايرا تماما لصورة ابنة الصعيد رمز الحنان والحب والاحتواء التى لا يمنعها الفقر من اعتزازها بنفسها مقابل انتهازية "بطة" فى "كلام للبحر" فظهرت ابنة القاهرة بما لديها من خبرة الانصهار فى قلب المدينة، فكانت نموذجا للفتاة التى تستغل جمالها للثراء، فتخطط للزواج من عجوز ميسور بمباركة الأم ونصائحها.
نفس الصورة الانتهازية التى قدمها أيضا "يحيى" لابنة المدينة فى قصة "حكاية أم دليلة.. طاهية الموت" فى مجموعته "حكايات للأمير حتى ينام"
وفى نهاية الرحلة عاد يحيى مجددا بـ"الرقصة المباحة" إلى القرية التى غاب عنها طويلا، إلى البيئة التى اعتادها، واعتادت عليه فأفاضت إليه بأسرارها، فقدم "يحيى" حكاية الفعل المحظور حتى ولو كان بين أطفال لا يُدركون خطيئته، فيقتل الأب ابنه بعد ضبطه مع ابن جاره خوفا من العار.
ووصف "يحيى" مشاعر الأب الذى فقد ابنه حتى ولو كان بيديه ومباركته : "جثا شحات فوق جثة ابنه يبكى ، بكى كما لم تبك امرأة يوما فى القرية على ميت عزيز ."
ثم حاول "يحيى" أن يقدم مبرر الأب من خلال حديثه إلى أحد رجال القرية قائلا: أنا فقير يا حاج ولا املك غير شرفى ، هل كنت تحترمنى يا حاج ؟ هل كان يحترمنى أحد ؟ من كان يحمل عنى العار؟ أنا الآن أملك شرفى.