شعرت وقداسة البابا تواضروس الثانى يصلى على جثمان الراحل الكبير ثروت باسيلى أنه يودع ويجنز معه المجلس الملى العام، وينهى مرحلة امتدت من 1872 وحتى الآن، ونظرت إلى الجسد المسجى ينتظر الرحيل نحو الله وكأنه يقول لنا: «لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدا» (فى 1 : 23)، هناك حيث فى انتظاره البابا شنودة الثالث، البابا الذى خدم معه أعواما كثيرة.
كثيرون يبكون الراحل الكريم، هناك من يبكى رئيس شركة أمون للأدوية، ورئيس شعبة الأدوية باتحاد الصناعات المصرية ووكيل لجنة الصحة بمجلس الشورى وعضو مجلس النواب المصرى، وآخرون يبكون مؤسس محطة CTV، القبطية، والبعض يبكى خادما كنسيا، ولكن لا أحد يدرك أن هذا الرجل استطاع أن يفعل ما لم يستطيع أن يفعله كثيرون من «عظماء الأقباط» الذين شغلوا منصب وكالة المجلس الملى العام، لأنه لا يمكن إدراك وفهم المجلس الملى دون إدراك ما يحدث فى الوطن، ولا يمكن إدراك ما يحدث فى الوطن دون إدراك ما يحدث فى الكنيسة العتيدة، منذ 1873 وحتى نهاية 2017، ما يقارب القرن ونصف القرن، سبعة بابوات (كيرلس الخامس، يوانس التاسع عشر، مكاريوس الثالث، يوساب الثانى، كيرلس السادس، شنودة الثالث، تواضروس الثانى) و18 مجلسا مليا، ولم تخلوا دورة للمجالس الملية من مشكلات وخلافات بين الإكليروس والعلمانيين إلا فى عهد البابا المتنيح شنودة الثالث، ويعود ذلك إلى رسامة الأعضاء الموقرين شمامسة، ومن ثم عملوا ليس بصفتهم علمانيين بل درجة من درجات الإكليروس!!
كانت دورات المجلس الملى المتعاقبة فى عهد البابا المتنيح شنودة الثانى تخلوا من أى نزاع، ذلك لأن ثروت باسيلى كان رجل الكنيسة فى الدولة ورجل الدولة فى الكنيسة فى توازن لم يستطع فعله كل وكلاء المجالس الملية السابقين، مثلا بطرس غالى الكبير أو وكيل للمجلس الملى والمؤسس 1873، حينما اختلف مع البابا كيرلس الخامس فى إحدى الخلافات 1890 فقام بالشكوى للدولة والمحتل الإنجليزى، فتم نفى البطريرك كيرلس الخامس إلى دير البراموس ووكيله الأنبا يؤانس إلى دير الأنبا بولا.ورغم أن الراحل الكريم اختلف مع البابا شنودة عام 2009، وطلب بعض المقربين عقد اجتماع للمجلس الملى لفصل د. ثروت باسيلى، بل وهدد أحد الأعضاء من المحامين باللجوء للقضاء ما لم يحدث ذلك ولكن استطاع البابا شنودة بحكمته والخادم ثروت باسيلى بطاعته احتواء الوقف، ليكون هذا أول وآخر مجلس ملى لا يحدث فية الشقاق ويستمر.
أفرغ المجلس الملى من مضمونه بعد ثورة يوليو 1952، ومن غلبة الليبراليين وكبار الملاك على عضويته من 1873 وحتى 1952، إلى كبار الموظفين ورجال الدولة والتكنوقراط بعد 1952، إلى متغيرات كبرى حدثت للنخب القبطية بعد ثورة 25 يناير 2011، حيث لم تعد النخب كسابق عهدها، بل أغلبهم ثوار وخدام، أبناء ثورة الاتصالات، ثوار غيروا منهج الأبوية وأصبح الشعب مصدر السلطات، هذه المعطيات والمتغيرات انعكست على المجلس الملى حتى أن البابا تواضروس صرح فى أكثر من حديث بأنه لايرتاح لاسم «المجلس الملى» ومن المؤكد أن البابا على حق لأننا لا نعيش الآن فى العصر الذى نصنف فية ك«ملة»، بل نعيش فى عصر المواطنة، ولذلك كله ووفق كل ما ذكر فإن العمر الافتراضى للمجلس الملى شكلا وموضوعا، الاسم والمهام والتركيب الاجتماعى، كل ذلك انتهى عمره الافتراضى، وأصبح الحديث عن «المجلس الملى» بشكله القديم كمن يدخل الكنيسة بالطربوش العثمانلى لانه بعد يوليو 1952، لم يبق للمجلس الملى من دور فى ظل ثورة يوليو 1952، بعد أن أعيد تشكيل المجلس الملى بعد إلغاء الأحكام العرفية فى صيف 1956، وجاء وكيله إسكندر حنا دميان وسكرتيره العام راغب إسكندر، وكان الأنبا يوساب الثانى مازال على قيد الحياة.. واصطدم المجلس بالبابا يوساب واختطف البابا من جماعة الأمة القبطية وحل المجلس، بعد اعتلاء الأنبا كيرلس السادس كرسى مارمرقس، لم يجد المجلس الملى بعد سحب جميع اختصاصاته من يمارس معه الصراع سوى الأنبا كيرلس ذاته.
وهكذا فقد ناصب المجلس الملى الخلاف مع القديس كيرلس السادس..حتى أن «جريدة مصر» كانت تنتقده على أنه رجل صلاة وليس رجل إدارة وادعاء المجلس الملى على عدم قدرته على الإنفاق على البطريركية والكنيسة واضطر إزاء ذلك البابا كيرلس إلى الاستدانة من «جمعية التوفيق القبطية» ألفى جنيه ليدفع مرتبات الكهنة والموظفين، ثم توقف بعد ذلك عن دفع الأجور الزهيدة لهم فى ذلك الوقت، لذلك توجه البابا كيرلس إلى الرئيس عبد الناصر وعرض عليه الأمر، فأمر عبد الناصر بصرف تبرع من الدولة للكنيسة بمبلغ عشرة آلاف جنيه مصرى مع حل المجلس الملى الذى ثبت فشله مع تشكيل لجنة برئاسة البابا كيرلس عام 1967 لإدارة أوقاف الكنيسة، وكانت نتيجة ذلك أن عبرت البطريركية ديونها بل وارتفع رصيدها إلى 150 ألف جنيه خلال عامين، واستمر المجلس محلولا إلى أن أعاده البابا شنودة الثالث بعد تنصيبه بطريركا فى 1971.
ومن ثم المطلوب إعادة النظر فى مجمل علاقة الكنيسة بالعلمانيين، وبالمسألة التمثيلية، وباسم ومهمة ولائحة هذا المجلس، وقاعدة الناخبين، ومكانة الشباب، ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمرا جديدة فى زقاق عتيقة لئلا تنشق الزقاق فالخمر تنصب والزقاق تتلف بل يجعلون خمرا جديدة فى زقاق جديدة فتحفظ جميعا. (مر 2 18: 22)
هكذا يترجل ثروت باسيلى نحو الله وسيكتب له التاريخ أنه الوكيل الوحيد للمجلس الملى الذى حفظ المجلس والكنيسة والدولة، وربما يكون آخر الوكلاء للمجالس الملية «العثمانلية» فى عصر حقوق الإنسان والمواطنة.