منذ ما يقرب من 3383 سنة تقريبًا، كشفت ما تُطلق عليها رسائل «تل العمارنة» ما سطره الحكم الدينى فى مصر من فشل ضخم، على يد الملك أمنحوتب الرابع الشهير بـ«إخناتون»، وانهيار الإمبراطورية المصرية بعد سنوات طويلة من الازدهار والقوة، وتوسعها إلى ما بعد بلاد الشام.
الملك «إخناتون» اتخذ من الدين ستارًا ليؤسس به حكمه، مبشرًا بديانة جديدة، تدعو للتوحيد وعبادة الإله «أتون»، منقلبًا على «أبوالآلهة» حينذاك «أمون رع»، مما دفع الكهنة إلى الوقوف ضده بقوة، مستخدمين نفوذهم، لمنع التبشير بهذه الديانة، واضطهاد أتباعها، وتضييق الخناق عليهم، ولم يجد «إخناتون» سبيلًا أمام الحرب الضروس ضده سوى الهجرة من «طيبة» جنوبًا إلى «تل العمارنة» بالمنيا شمالًا.
وتفرغ «إخناتون» للعبادة والتبشير بديانته الجديدة، تاركًا الحكم لرجال بلاطه، لذلك فإن عهده يتشابه مع عهد المعزول «مرسى»، فالاثنان أسسا لقاعدة الحاكم المتدين، الذى اهتم بأمور العبادات، أكثر من اهتمامه بشؤون البلاد داخليًا وخارجيًا، وخاضا معارك دامية مع معارضيهما، وضعت مصر على خندق الاضطرابات والقلاقل.
«إخناتون» دشن عهده بالانقلاب على كهنة «أمون رع» فى طيبة «الأقصر»، وخاض معهم معارك ضروسًا، دفعته إلى مغادرة طيبة وتأسيس مدينة «تل العمارنة» بمحافظة المنيا للتبشير بديانته الجديدة «أتون رع»، وظل يتعبد فى معابد الشمس، تاركًا إدارة شأن البلاد داخليًا وخارجيًا يقتسمها رجال بلاط قصره مع والدته الملكة «تى»، فتشتت القرارات وتقسمت مصر داخليًا ما بين كهنة «أمون رع»، الذين حكموا طيبة فى الجنوب، والملك الشرعى الذى انشغل بفلسفته الخاصة وإصلاحاته الدينية، ومصر كانت حينها إمبراطورية ممتدة من أعالى النيل والنوبة جنوبًا، وبابل وبلاد الشام آسيويًا.
ولم يستجب «إخناتون» للرسائل التى بعث بها إليه حكام الإمارات الآسيوية فيما أطلق عليها رسائل «تل العمارنة»، التى تعد أرشيفًا ملكيًا رائعًا يؤرخ لمرحلة تاريخية هى الأبرز من تاريخ مصر، ومكتوبة بالخط المسمارى، يستجدى الأمراء فيها الملك بسرعة التحرك، وإرسال جيش مصر القوى لإخراس الأصوات التى تنادى بالانفصال عن جسد مصر العظيم دون مجيب.
وعندما أصابهم اليأس لجأوا إلى الملكة «تى»، والدة الملك «إخناتون»، وطالبوها بضرورة سرعة التحرك، وتصحيح مسار السياسة المصرية الخارجية التى انهارت فى عصر الملك المنغمس بأمور الديانة الجديدة، وانشغاله بصراعه المرير مع كهنة «أمون رع»، وتذكر الرسائل الملكة «تى» بمدى قوة وهيبة وتأثير ظهور الجيش المصرى على المنطقة إبان حكم الملك العظيم تحتمس الثالث، وكيف كان مجرد ظهوره يُخمد الفتن ويبطل الصراعات بين هذه الإمارات، إلا أنه لا مجيب، مما أدى إلى انهيار الإمبراطورية، وانفصال الجزء الآسيوى منها، وسيطرة كهنة «أمون رع» على الجزء الجنوبى.
الأمر يبدو مشابهًا بما مرت به مصر فى عهد المعزول محمد مرسى، فالرجل دشن عهده بخلافات مع جميع معارضيه، وركز على الظهور فى المساجد، وإلقاء الخطب الدينية لإلهاب مشاعر الشعب، ورفض استقبال رسائل قوى المعارضة، واستمر فى الاهتمام بتأدية صلاة الجمعة من كل أسبوع فى مسجد من المساجد، ونسجت حوله قصص إمامته للحرس الجمهورى وضباط الشرطة فى الصلاة بقصر الاتحادية وفى المساجد.
وعلى نفس النهج التزم المعزول محمد مرسى العياط الصمت حيال الانقسامات الخطيرة بين كل التيارات السياسية، وظهر ما يسمى اصطلاحًا بـ«دسترة وأخونة » الدولة، وسيطرة فصيل واحد على مقدرات البلاد، الأمر الذى فجّر بركان الغضب بين التيارات المختلفة، وظهرت اعتراضات واعتصامات لأجهزة مسؤولة، كما طفا على سير الأحداث اتهام بأن الذى يدير الدولة هو مكتب الإرشاد فى المقطم، وليس المعزول «مرسى»، لذلك كان الانتقام من خصومه السياسيين.
أما السياسة الخارجية فلم تختلف كثيرًا عن الأوضاع المعقدة داخل البلاد، فقد شهدت توترًا بالغًا مع دول عربية شقيقة، أبرزها دول الخليج، باستثناء قطر، واستمرار غياب دور مصر فى أفريقيا، وتجرأت إثيوبيا وقررت بناء سلسلة سدود على نهر النيل، أبرزها سد النهضة الذى يؤثر على حصة مصر التاريخية من المياه، بجانب الغياب التام فى التوطيد والتنسيق مع دول جوار، تمثل امتدادًا للأمن القومى المصرى، مثل السودان وليبيا، وقطع العلاقات مع سوريا، رغم أن الجيش السورى -تاريخيًا- يعد هو الجيش المصرى الأول فى حماية الأمن القومى المصرى بمفهومه الشامل.
واستمر «إخناتون» و«مرسى» فى سياستيهما، وترك أمور الحكم ليتحكم فيها آخرون، فارتبكت مصر، وسقطت فى وحل الانهيار والفوضى، ويا للعجب، أن الذى أنقذ البلاد فى العهدين هو الجيش المصرى.
وبعد رحيل «إخناتون» تنازع على الحكم طفل صغير «توت عنخ أمون» ورجل طاعن فى السن «أى»، واستمرت البلاد فى الفوضى، حتى تحرك الرجل العسكرى القوى «حور محب»، لإنقاذ مصر، ونجح بالفعل فى إجراء سلسلة شاملة من الإصلاحات الداخلية لكبح إساءة استخدام السلطة والامتيازات التى كانت قد بدأت فى ظل «إخناتون»، وعيّن القضاة، وقسّم السلطة القانونية بين الصعيد والوجه البحرى، بين الوزراء من طيبة ومنف على التوالى، كما استحدث تشريعات وقوانين لتنظيم حياة العامة، واهتم بإصدار العديد من القوانين التى تنظم العلاقة بين الفرد والسلطة الحاكمة.
السيناريو نفسه حدث عقب ثورة 30 يونيو، وستظل مصر مزدهرة مادام على رأس السلطة حاكم قوى.