عُقدت كثيرٌ من المؤتمرات ولا تزال تعقد، وخصَّصَت كثير من وسائل الإعلام برامج حوارية، وأعمالًا فنية على شاشات التليفزيون والسينما، وتواصل القادة والزعماء ولا يزالون... من أجل ماذا؟ من أجل محاربة الإرهاب؛ ذلك الخطر الذى أصبح يهدد الإنسانية فى كل مكان، كيف نما إلى هذا الحد؟ وهل سينمو أكثر من ذلك؟ للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها لابد أن نعرف أولًا: ما بذرة الإرهاب التى نما منها؟
فرغم الجهود المضنية التى تبذلها العديد من دول العالم، يرفض الإرهاب - ذلك الوحش الكاسر - أن يرحل، ويترك الإنسانية تنعم بالعيش فى سلام، فمن أين يستمد هذا السرطان الذى أصاب جسد العالم بالوهن قوته؟ ولماذا نراه قويًا كلما قُضى عليه فى بقعة ظهر فى بقاع أخرى؟ وما الطريقة المُثلى للقضاء عليه؟ وهل تكمن هذه الطريقة فى مواجهته عسكريًّا؟ أم مجابهته عسكريًّا وفكريًّا معًا؟ وهل سيتنامى الإرهاب فى الفترة القادمة، أم سيمكن القضاء عليه؟
أسئلة كثيرة تشغل أذهان ملايين الأبرياء فى شتى أصقاع الأرض؛ هؤلاء الذين يأملون كل مساء أن يستيقظوا فى الصباح ليجدوا العالم خاليًا من الدماء، ويصبحوا آمنين على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم.
إن لدينا قناعة تامة بوجود عوامل، وأسباب، وجهات دولية توفر للإرهاب البيئة الخصبة لينمو ويترعرع، وإن هذه الجهات لا تَكُفُّ عن مدِّ الجماعات الإرهابية بالمال والسلاح، وكل ما يلزمهم لنشر الفوضى والدمار فى شتى بلدان العالم -وبخاصة دول الشرق الأوسط – ومن ثم تجعلنا لا نمل من التأكيد على أن هناك عوامل أخرى هى التى تُمِدُّ الجماعات الإرهابية بأهم سلاح يضمن لها البقاء.. سلاح العنصر البشرى.
فالإرهاب بذرة شيطانية غُرست فى عقول عشرات الآلاف من المتطرفين، وهذه البذرة يتطلب اجتثاثها من جذورها امتلاكنا لسلاح من نوع خاص، ذلك هو سلاح الفكر الذى يفوق فى أهميته الأسلحة العسكرية، وهنا يجب أن يتوافق الجميع على أنَّ الفكر لا يحارب إلا بالفكر، ومن ثمً يدركون أن القضاء على الإرهاب، لن يتحقق بين عَشيَّةٍ وضحاها، ولكنها حرب فكرية تتطلب وقتًا مضاعفًا لتحقيق النصر، تتطلب وقتًا مضاعفًا لإخراج الفكر الضال من عقول آمنت به تحت وطأة عوامل وأسباب سنتعرض لها بالتفصيل، واستبداله بفكر وسطى صحيح، ومن ناحية أخرى العمل على حماية النشء الصغير والشباب من الوقوع فى براثن الجماعات الإرهابية، وفى العامل الأخير نحقق التحصين، الذى به نضع أيدينا على السلاح الأمثل للقضاء على هذا الوحش الكاسر، فلا شك فى أن قطع طريق الإمداد البشرى على تلك الجماعات موت محقق لها، وذهاب لا رجعة فيه.
والبحث عن كيفية القضاء على الإرهاب، يتطلب منا الوقوف على الأسباب الحقيقية لظهور هذه الجماعات الدموية؛ لأن الوقوف على الأسباب التى تجعل من الإنسان متطرفًا ومتقبلًا - بل وساعيًا بكل قوةٍ - لقتل أخيه فى الإنسانية بدم بارد، سيقودنا إلى التوصل إلى الطريقة المُثلى للقضاء على الإرهاب.
ويجدر بنا قبل التطرق إلى سرد أسباب الإرهاب والتطرف، أن نواجه أنفسنا بحقيقة وجودية، وهى أن بداخل كل منا «نزعة تطرف» تشبه البركان الخامد، وبقاء بركان التطرف الكامن بداخل كلٍّ منا «خامدًا» - وهو ما يجسده مئات الملايين من الأشخاص الأسوياء الذين اتخذوا من العلم والعمل وسيلة لبناء مجتمعاتهم وجلب النفع لمن حولهم - أو غليان البركان ووصوله إلى مرحلة الانفجار - وهو ما يجسده عشرات الآلاف من الإرهابيين والمتطرفين الذين اتخذوا من سفك دماء الأبرياء ونشر الفوضى والدمار وسيلة لهدم المجتمعات وإصابة من حولهم بشتى أنواع الضرر - يتوقف على مجموعة من العوامل والأسباب، نستطيع أن نّصِفَها بالموجِّه الرئيس لحياة كل شخص منا.
وقد عكف باحثو وحدة رصد اللغة الإسبانية، التابعة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف، على دراسة العوامل والأسباب التى تخلق من الشخص متطرفًا، وتقوده إلى الانزلاق فى مستنقع الجماعات الإرهابية، فوجدوا أن «التعصب للرأى» هو أول هذه الأسباب.
وتكمن خطورة «التعصب للرأى» كعامل من العوامل التى تساهم فى الميل نحو التطرف والإرهاب؛ فى أن كل إنسان يتمسك برأيه، ويرفض أن يتقبل الرأى الآخر، ويعتبر نفسه مُحِقًّا على الدوام فى كل ما يراه ويفعله، يُؤجج - دون أن يدرى - بداخله بركان التطرف، ويشعل فتيل الانفجار الذى يُهلكه وجميع من حوله؛ فالإنسان - كما يشير التقرير الذى جاء بعنوان: «أسباب الإرهاب» - يميل بطبعه إلى الاعتزاز برأيه، ويرى أن هذا الرأى هو عين الصواب ويجتهد إلى إقناع غيره بصحته، وهذه غريزة داخل كل إنسان، وللتحكم فى هذه الغريزة والسيطرة عليها يجب أن يضع كلٌّ منا أمام ناظره قول الإمام الشافعى: «رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب»، فالاحتمال هو الذى يترك للإنسان مساحة أنْ يغير رأيه إن وجده خطئًا، ويتبنى رأى غيره إن وجده صوابًا، أو على الأقل يسمح له بالنظر فى رأى غيره واعتباره.
أما من لا يدع مجالًا لهذا الاحتمال - كما يؤكد التقرير المُشار إليه سابقًا - ويتعامل مع رأيه على أنه الصواب المُطلق، وكل ما عداه هو عين الخطأ، فذلك هو المتعصب لرأيه؛ والتعصب يقود إلى الجمود الفكرى، وهما معًا يقودان إلى التطرف؛ فالمتطرف يرى أنه صاحب الحق المطلق، ويرفض أن يفتح قنوات حوار مع من يخالفه، لأن جمود فكره يجعله لا يعترف للآخرين بفكر أو برأى، وبالتالى يرفض كل من يخالفه، وهذا هو منشأ التطرف.. الفكر الذى يصاحبه عدم مرونةٍ وصعوبة تكيف.
ورفض المخالفة هنا لا يتوقف على عدم سماع المتعصب لأصحاب الرأى الآخر فقط، والمضى دون إلحاق الضرر النفسى أو المعنوى بهم، ولكنه سرعان ما يتطور ليصل إلى حد استخدام القوة لإجبارهم على التنازل عن رأيهم والإيمان برأيه دون غيره، وهذه هى بذرة الإرهاب الأولى التى يغرسها كل شخص بداخله، ليتحول معها وبعد فترة وجيزة إلى إنسان دموى، لا يطيق العيش لحظة من الزمان دون قتلٍ أو ترويعٍ أو نشر فوضى ودمار فى الأرض التى يحيا عليها.
وإذا كان التعصب للرأى هو البذرة الأولى أو منشأ الإرهاب، فكيف نعمل سويًا على وأد هذه الفكرة قبل أن تولد وتنمو وتتحول إلى أشواك تدمى قلوب الأبرياء صباح مساء؟ لعل هذا ما سنجيب عنه فى المقال المقبل بإذن الله.
نائب رئيس جامعة الأزهر لشئون الطلاب والتعليم والمشرف العام على مركز الأزهر العالمى للرصد والفتوى الإلكترونية والترجمة .