تقول لنا الموسيقى ما لا يقدر أن يقوله أى شىء، ويقول لنا مقام الصبا ما لا تقدر أن تقوله الموسيقى، هو ليس مقاما بالمعنى الشائع للكلمة، لكنه حكمة كونية فى صورة مقام موسيقى، شىء فريد لم تمسسه يد، لا يتفرع منه مقام، ولا يتفرع من مقام، هو عائلة موسيقية مكتملة الأركان، لا يقدر أحد على التأثير فيه أو تحويل مساره، هو مقام الحزن وحده، والحزن يولد فى الشتاء، كما قال حكيم الشعر «صلاح عبدالصبور»، وكلما أتى الشتاء سمعت فى أعماق الكون شدوا بهذا المقام المتفرد الحانى.
له حكمة، وله فرادة، وله وقع وأثر فى كل نفس، لا تخطئه الأذن ولا يغفله القلب، وكأنه مزود بمخلب من حرير يغرسه فى الروح فيأسرها من أول نغمة، لا أعلم على وجه التحديد متى تم اختراعه أو أين، لكنى على يقين تام بأن الأغانى التراثية المصرية الموضوعة على هذا المقام هى الأقدم على الإطلاق، كما أنه من أشهر المقامات المستخدمة فى حالات الحزن المصرية الخالصة، يناسب تمامًا من دبجوا «العدودة» وحفروا الصخر وبنوا الأهرامات تمجيدا للحزن المقيم.
وكما أن للصبا حكمة فى تأثيره، فإن له حكمة أخرى فى تكوينه، ففرادته كمقام موسيقى أتت من تركيبته الغريبة عن أى مقام آخر، فهو المقام الوحيد الذى يعد «ناقصا»، فجميع المقامات الموسيقية تتكون من سبع درجات كاملة لا تنتقص ولا تزيد، وحده «الصبا» يتكون من ست درجات ونصف الدرجة، وبسبب هذا النقص يشعر الواحد بشىء غريب فيه، والغرابة أم الدهشة، والغربة أخت الحزن، وبهذا يكتمل الحزن ويتعمق الشجن الكامل فى الصبا، ليقول لنا حكمته الخالدة بأن تمام الحزن كامن فى تمام النقصان.
فقد «الصبا» جزءا منه، فأوجعنا بهذا الفقدان على مر الزمان، مقام مبدع، استطاع ببراعة أن ينقل لنا مأساته بحذافيرها، ولهذا لم يقدر أحد على مر التاريخ أن يغير فى شخصيته، من السهل جدا أن تجعل «البياتى» حزينا شجيا فتغنى من خلاله «ست الحبايب يا حبيبة»، ومن السهل أيضًا أن تغنى من خلاله «دقوا المزاهر يالا ويا أهل البيت تعالوا»، وما ينطبق على البياتى ينطبق على النهاوند والسيكاه والرست والكورد والعجم، لكن الصبا وحده يقف وحيدا متفردا، يشعرك السكينة فى «هو صحيح الهوا غلاب»، وبالفقد فى «بحبك قد روحى.. لا لا أكتر كتير»، وبالغياب فى «سحب رمشه ورد الباب كحيل الأهداب».
نشر هذا المقال تحت عنوان «حكمة الصبا» فى الجمعة، 02 ديسمبر 2016.