جدد رحيل أستاذنا الصحفى والكاتب والمؤرخ الكبير صلاح عيسى، مسألة تتجدد مع رحيل كل كبير فى الفكر أو العلم أو السياسة. وهى أن الصحافة والإعلام يحتشدان لذكر ميزات وإنجازات وعظمة الشخص بعد أن يرحل، ويثور السؤال: لماذا لا نذكر الشخص ونعترف بفضله وأستاذيته، ونحتفى بكتبه وأفكاره وهو على قيد الحياة؟
وقد عبر الكاتب اللامع الصديق عمر طاهر عن هذا ببراعة عندما كتب على صفحته «كل أصدقائى الشاطرين ف المهنة فعلا وأصحاب منصات ومقالات متغاظ منهم ومن نبرة عمنا صلاح عيسى هو الأهم ويستاهل أكتر وصنايعى المهنة وأحسن واحد كتب عن كذا.. النبرة اللى ظهرت بعد وفاته النهاردة.. كنتوا فين وأنا معاكم وهو موجود وليه مستكترينها على الكبار فى حياتهم».
عمر طاهر يعبر عن شعور يتلبسنا كلما رحل أحد كبارنا من المبدعين أو الكتاب، ومنهم أستاذنا الكاتب الكبير صلاح عيسى. ومعه عقد من المبدعين والكبار والصنايعية. وقد استبق عمر طاهر بكتابه الرائع «صنايعية مصر» الذى رصد فيه بقلم مبدع قصص كبار الصنايعية فى كل مهنة وإبداع من الفن للثقافة للطب للسياسة الصناعة والحرف والفنون التى رسمت زمنا نحن إليه ونحلم باستعادته. والصنايعى أو المعلم كانت تعرفه المهن لا يكون فقد حرفيا مهنيا فنانا مبدعا، لكنه أيضا يعلم صبيانه و«يسقيهم» الصنعة، هكذا كان كتاب عمر طاهر اعترافا بأفضال من رحلوا.
وجدد ما كتبه بمناسبة رحيل صلاح عيسى مناقشة تتكرر مع رحيل كل «أسطى»، مع صلاح عيسى وقبله، وهو أمر صحيح يعبر عن عيب فى صنعة «الامتنان» بالمجتمع للأساتذة السابقين.
ربما يضاف إلى ما كتبه عمر أننا أحيانا نتعامل مع أساتذتنا وكأنهم لن يرحلوا، بالرغم من أن الرحيل حقيقة ومثلما نتعامل مع أبائنا وأمهاتنا، نشعر بحبهم واحترامهم وامتنان دائم من دون أن نقول ذلك أو نشعر به إلا بعد خسارتهم، نحن لا نقول لأهلنا مشاعرنا.
لكن مع حالة الأستاذ صلاح عيسى، جمعتنا جنازته مع عدد الأصدقاء من تلاميذه، كتاب وشعراء إبراهيم داود، وسيد محمود، وإبراهيم منصور، واكتشفنا أن التقصير فى حق صلاح عيسى، لم يقتصر على تجاهل الاعتراف بفضله أثناء حياته، لكنه تقصير من مؤسسات صحفية وثقافية، يدخل ضمن عبث الإهمال والاستهبال، منه أن صلاح عيسى لم يحصل على جائزة نقابة الصحفيين التى تمنح لكبار شيوخ المهنة، بالرغم من أن صلاح عيسى قدم للمهنة والنقابة الكثير، عضوا فى مجلس النقابة، أو مشاركا فى إعداد التشريعات الخاصة بالصحافة وحرية تداول المعلومات، فضلا عن أستاذيته كصنايعى وصحفى علم أجيالا وصنع وشارك فى صنع تجارب صحفية ناجحة.
ومن الصدمات أيضا أن كاتب ومؤرخ ومبدع فى حجم صلاح عيسى له أكثر من 25 كتابا فى التاريخ والأدب السياسى والنقد الاجتماعى «منها على سبيل المثال» حكايات من دفتر الوطن، هوامش المقريزى، البرنسيسة والأفندى، تباريح جريح، حكايات ريا وسكينة» وغيرها، فضلا عن تحقيق وتقديم وتوثيق وشرح مئات الكتب والأحداث والوقائع. كل هذا ولم يحصل صلاح عيسى على جائزة الدولة التقديرية، ولا جائزة النيل، بالرغم من أنه استحقها عن جدارة فى حياته، ومع هذا لم يحصل عليها، وهو ما يبدو جزءا من مشاهد العبث التى كان صلاح عيسى بارعا فى التقاطها.
ولا يخفف من وقع هذا العبث، أن صلاح عيسى، ربما ينظر بسخرية لمن تجاهلوه حيا، يبالغون فى تذكره بعد رحيله، وقطعا سوف يسامحنا كعادته.