أبى عام 2017 أن يرحل بأشجانه وأحزانه وأحداثه إلا وينبؤنا عن خبر أليم برحيل الزميل المرحوم المستشار الدكتور محمد كمال الدين منير نائب رئيس مجلس الدولة، ورئيس مركز الدراسات والبحوث القضائية بالمجلس.
لقد كان رحيله فجيعة لنا جميعا.. وهو العالم الخلوق الذى كان يعمل فى أناة وصمت.. ويعد من جيل الرواد الذين أثروا صرح مجلس الدولة علماً ونوراً مبيناً وهو من أبناء دفعة 1978 وعين بالمجلس فى 13 يوليو 1982، وكثيراً ما أثرى العمل القضائى فى كافة أقسام المجلس التى عمل بها.. خاصة إبان عمله بالمحكمة الإدارية العليا عامى 2005 و2006 مع أساطين القانون الإدارى المرحوم المستشار الدكتور عبد الرحمن عثمان أحمد عزوز رئيس مجلس الدولة اَنذاك وبصحبته كوكبة من الزملاء الأعزاء المستشار الجليل محــمد السيد الطحـان والمستشار الجليل أحمد عبد العزيز إبراهيم أبو العزم- الذى يشغل منصب رئيس مجلس الدولة الحالى- والمستشار الجليل حسن سلامة أحمد محمود والمستشار الجليل أحمد عبد الحميد حسن عبود أو فى العمل البحثى لشباب القضاة فى مركز الدراسات والبحوث القضائية.
لقد سطر المرحوم المستشار الدكتور محمد كمال الدين منير بعقله ودمه وعمله وقلمه وعرقه وسهره سطوراً فى طريق منير اقترنت بلقبه.. جعلت من رصيده فى العمل القضائى ملحمة تكون زخراً لتاريخه وعلماً خفاقاً للأجيال من بعده. وأتذكر فى العام الماضى قبل اصابته بالمرض اللعين أنه حدثنى عن ضرورة تنظيم محاضرة عن موضوع ظاهرة الإغفال التشريعى ودور القاضى الإدارى والدستورى.. وكلفنى بهذا الأمر.. فأعددت بحثاً فيه نشر بمجلة كلية الحقوق جامعة الإسكندرية.. ولم يمهله القدر بعدها فى متابعة موضوعها.. وكان رحمة الله عليه محباً للعلم والثقافة.. دمث الخُلق..كريم الصفات.. حسن المعشر.. حلو اللسان.
ولقد شهد عام 2017 رحيل العديد من الزملاء الكرام.. وتكرار الأحزان اختبار من المولى عز وجل لقوة الإيمان.. ولا شىء أصعب على النفس من فقدان عزيز، ولا يوجد كلمات تعبر عما فى داخلنا تجاه شخصك الكريم، ولا يسعنا سوى أن نرضى بقضاء الله وقدره فالموت علينا حق لا مفر منه، ولا يبقى لنا سوى الدعاء والتضرع إلى الله أن يتغمد برحمته الفقيد وهو الملاذ والمخرج الوحيد من حالة الحزن والأسى.. إن للموت جلال ورهبة أيها الراحلون.. كما له مرارة وألم.. نحن وحدنا من تمتد به الحياة نبكيكم، ونذرف الدمع فى وداعكم، ولا نكاد نصدق أننا لن نراكم بعد اليوم.. فلماذا يثير الموت كل هذه الرهبة الكبرى؟ ولماذا نبكى الراحلين.. وقد امتدت بهم مراحل أخرى لحياة أخرى؟ ونحن سائرون إليها شئنا أم أبينا.. إننا فى الحقيقة لا نبكيهم لأنهم رحلوا، بل نبكى أنفسنا لأنهم تركونا وحدنا.. إن كل الآمنا ودموعنا وفرقنا وقلقنا لأننا لن نراهم بعد اليوم فى دنيانا، وقد كانوا بعض سلوتنا أو جزءً من حياتنا أو بقية من رفاقنا.. نحن إذن من يجب أن يجزع لأن الراحلين انطفأت شموعهم فى حياتنا، وإن كانت أثرها باقية تنير الطريق للقادمين من الخلف.. إن للموت جلال أيها الباقون.
وكل شىء فى دنيانا رحل وزائل.. ويتغير ويتبدل إلا وجه ربك الكريم.. فكل شئ إذا ما تم نقصانه فلا يُغر بطيب العيش إنسان.. لقد صور لى وهمى يا زميلى الحبيب أن طيب عيشك معنا شمس لا تغيب.. وبحر لا ينفد.. ناسياً أن الدوام ضرب من ضروب المحال والخيال.. وما دفعنى لهذا الوهم سوى زحام الفرحة التى كنا نحسها حولك وحشود السعادة التى جاءتنا تطرى بلقائك.. لذا صعب على النفس أن تودع نفسها! نبكى على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا.. أعوام عديدة مضت من حساب الدهر ومن تصاريف الأيام.. لكنها عندنا عمر أغلى من أن يُطوى وذكرى أجَل من أن تُنسى.. فإذا كان الزمان قد اغتال فرحتنا وطوى صفحتنا فإن لنا لقاء إن شاء الله فى جنة الخلد ونحسبها عند الله برحمته علينا .
ومادام لقاؤنا بالفراق مختوما.. وما دام انقضاء الفرحة بيننا شيئاً محتوما.. وما دام رحيلك شيئاً مكتوباً.. فلا أقل من يذرف القلب بالدمع وإن كان الدمع لا يُغنى ولا يفيد.. فهى أيام رحلت فى زمن ماضى.. والماضى لا يعود.. إن الحزن يعصر نفسى والألم يخنق الدمع فى عينى حين اتخيل هذه اللقاءات والمناقشات العلمية الراقية بيننا والتى كنا طائفيها.. ولولا دافع الإيمان لتساءلت ما هذا الفراق يا رب.. أو لا تدوم السعادة على قلوب هزتها رغبتها الملحة نحو العلم والمعرفة والحقيقة.. وأضناها الفكر بحثاً عن الحق والفضيلة.. أى هذا الزمان الغادر لمن صفيت قبلنا حتى تصفو لنا؟ لكنى أقول استحى يا دمع وتوارى يا اَنين وقفى أيتها الأيام نسألك إلى أين بنا تمضين !
إن أشد ما يحزن القلب فراق الأحبة.. ومن أشد التأثر بكاء أطفالهم ولو رأيت بكاهم لهالك الأمر واستهوتـك أحـزان.. فيارب أم وطفل حيل بينـهـمـا بفراق الأب كمـا تـفـرق أرواح وأبــدان.. وترى الأطفال مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنما هى ياقـوت ومـرجـان.. والعين باكية والقـلـب حـيران.. مثل هذا الفراق يذوب فينا القلب من كـمـد.. إن كان فى القلب عقيدة إيمـان- فسلام عليك فى دار الخلد يا رفيق العدالة - وعزائى لرجال مجلس الدولة أنه فراق على حب سيجمعنا به الله فى الجنة برحمة الله.. مادام ورد العدالة حياً سيرويه رجال العدالة الإدارية حقاً وعدلاً وإنصافاً وصدقاً.. فإن كان لنا فى قلبك الطاهر التقى النقى.. مثل مالك عندنا.. فأبداً لن ننساك.. فسنذكرك طيراً حط بأرض صرح مجلس الدولة ستاً وثلاثين سنة فى سماء المشروعية ورحل.. ولكن رحلت وفى عروقنا حبك لن نرحل عن ذكرك إلا حيث ترحل الروح.