لن تعود صحافة الزمن الجميل إلا إذا عادت أخلاقيات الزمن الجميل، وأهم مواصفاته الاستيعاب، ولم الشمل، وعدم الإقصاء، وهذا ما كان يميز الراحل الكبير إبراهيم نافع، وكانت شخصيته التوفيقية مظلة تحتوى تحتها الجميع من أقصى اليمين لأقصى اليسار، ووجد الصحفيون الذين تغلق فى وجوههم منافذ صحفهم نافذة أكثر اتساعًا فى إصدارات «الأهرام»، ورغم ذلك فقد مُورس الإقصاء ضد كاتبنا الكبير، الذى كان عدوًا للإقصاء.
استقبلت مع نقيب الصحفيين ورئيس تحرير «الأهرام» و«الأهرام المسائى» جثمانه صباح أمس فى قرية البضائع، وشارك فى إلقاء النظرة الأخيرة على الصندوق الخشبى الذى يضم جثمانه أفراد أسرته وبعض العاملين بمؤسسة «الأهرام».. وسبحان الله فـ«نافع» الذى كان خائفًا من العودة لمصر من قرارات ترقب الوصول، عاد مطمئنًا آمنًا غير خائف من السجن، وسط مظاهرة حب واعتراف بالجميل من زملاء الوفاء، ورد الاعتبار.
يا ريت نستفيد من الدرس، وندرك أن الصحفى الذى يمسك قلمًا ينتحر بإصرار، إذا تحول القلم فى يده إلى سيف انتقام، فالمناصب لا تدوم، والذى يبقى هو المبادئ والقيم والأخلاقيات، ومن حاولوا النَيل ظلمًا من «نافع»، ذهبوا أحياء يحصدون الكراهية، وعاش «نافع» ميتًا يحوز الحب والاحترام.. ينعم بعد الموت بالسلام، وما أجمل أن يرحل الإنسان تاركًا رصيدًا يبقى فى حسابه، وفى تقييم التاريخ لإنجازاته.
ما أحوجنا لاستدعاء أخلاقيات المهنة العريقة، وأن يتسلح حملة الأقلام بالنبل والسمو والارتفاع فوق الخلافات، حتى نترك للمهنة أشياء تعتز بها الأجيال المقبلة، وتسطرها فى سجلات الفخر والاعتزاز، فلا حاضر ولا مستقبل للصحافة، إلا إذا تسلحت بالقيم النبيلة، ووقفت حارسًا أمينًا على ضمير الرأى العام، توجهه شطر الوطن الذى يحتوينا أحياء وأمواتًا، وهذا هو الكنز الذى حافظت عليه الصحافة النظيفة، وسهر عليه كتابها الكبار.
إبراهيم نافع كان واحدًا من هؤلاء، ترأس النقابة و«الأهرام» واتحاد الصحفيين العرب، وأدار المنظومة بمهارة واقتدار، وترك فى كل مكان شغله بصمة قوية، انعكست بوضوح على تلاميذه ومحبيه، ويا ليتها تصبح سمة غالبة فى الصحافة المصرية بجميع أطيافها وألوانها السياسية، وإذا حدث ذلك فسوف تسرى الطاقات الإيجابية فى كل وسائل الإعلام.
الوفاء هو أثمن شىء فى الحياة.. الوفاء للوطن والكلمة والمهنة والأخلاق والضمير، واسترداد الصحافة لن يتحقق إلا بإحياء مبادئها الكريمة التى أرساها جيل العمالقة الكبار.. كانوا عشاقًا فى الفضاء الفسيح للحرية، وتحولت الأقلام فى أيديهم إلى مشاعل تنوير.