هو مشهد درامى من نوع التراجيديا الإنسانية بلاشك، ذلك الرحيل المر لقامة صحفية كبيرة فى حياتنا المعاصرة .. إبراهيم نافع فى ذمة الله والتاريخ الآن، بعد أن كان يحلم بقضاء آخر أيامه على التراب المصرى، لكن قضاء الله كان الأسبق، فمات فى غربة لم تستطع أن تنال من رمز صحفى لقبه معارضوه قبل مؤيديه بـ"عملاق الصحافة"، ولم تستطع الصورة الأخيرة له وهو ملقى على سرير الموت البطىء أن تمحو 60 عاما من النجاح والنجومية والتألق، فالرجل كان محببًا ومقربًا لرأس السلطة قبل أن يترك منصبه، لم ينف يومًا علاقته بـالرئيس الأسبق حسنى مبارك حتى وإن ظن البعض أن الأمر انتقص من رصيده وتاريخه الصحفى.
"نفسى أرجع مصر" قالها قبل الرحيل المر بأيام قليلة بصوته الهادئ الرخيم لزوجته الإعلامية الكبيرة "علا بركات"، وظل يرددها فور أن علم إصابته بالمرض اللعين"سرطان البنكرياس"، وكم تمنى العودة أكثر مرة إلى وطنه مصر، بعدما شعر بدنو أجله على أثر تدهورت حالته، فلم يعد جسد الصحفى الثمانينى يقوى على التحدى مثلما كان فى الماضى فارسا تهابه أروقة ومنصات صاحبة الجلالة، فلم يعد يستطيع المقاومة، مقاومة البعد عن الوطن والأهل والأصدقاء والمحبين من تلاميذه .
ظل فارس الأهرام وصانع مجدها التليد فى القرن العشرين يجلس طويلا متكئا على مقعد طبى بإحدى غرف العناية المركزة بإمارة دبى يتأمل العالم من حوله بهدوئه المعهود، بينما الأسلاك الرفيعة تصل بينه وبين أجهزة القلب والضغط والتنفس، هكذا يبدو الأمر فى ظاهره، إلا أن بداخل "نافع" كانت تتلاطم أمواج من الذكريات، ذكريات أمجاده الصحفية وتحديه لعقبات ليست هينة فى حياته استطاع أن يقهرها بفروسية وأخلاق رفيعة، وذكريات الأيام الأخيرة فى غربة فرضت عليه فجعلته كعصفور مهيض الجناح لا يقوى على الطيران محلقا فى سماء بلاده التى عشقها طوال 84 عاما هى مجموع عمره بالتمام والكمال.. شريط حياة يزيد عن ٨٠ عامًا، حقق خلالها نجاحات كثيرة وكبوات أقل نجا منها بفرط من حنكة وذكاء لم يعدمه طوال حياته.
يمر شريط الذكريات أمامه وكأنه فيلم سينمائى طويل يسرد حياته المليئة بالمفارقات، منذ أن كان شابا فى السابعة عشر من عمره قادمًا من محافظة السويس إلى العاصمة القاهرة ليلتحق بكلية الحقوق جامعة عين شمس، وهو لا يزال يتذكر جيدًا يوم أن تخرج فى العام ١٩٥٦ - إبان العدوان الثلاثى على مصر آنذاك - وذهب مع أحد رفقائه إلى مكتب وكالة "رويترز" بالقاهرة، فقد كان - رحمه الله – يؤمن بموهبته المبكرة، وإنه يمتلك من المهارات ما يؤهله للالتحاق بهذه الوكالة الصحفية العريقة، والتى كانت تتطلب بالطلع مواصفات خاصة.
عشق إبراهيم نافع القلم منذ نعومة أظفاره، وكان له أن يكون ذلك الشاب الدءوب الذى شٌغل شغفًا بالصحافة ورائحة الورق والحبر، ومن جانبها لم تبخل عليه صاحبة الجلالة هى الأخرى فمنحته القوة والتحدى لكافة العقبات، أحبته كثيرا بقدر ما أحبها وعشقها، احتضنته بصدر رحب وطوعت كافة إمكاناته وقدراته المذهلة مقرونة بالصبر والجلد، فأدخلته إلى بلاطها من الباب الملكى لأبنائها من النابهين، وتزامن ذلك مع وجود الإذاعة المصرية كبوتقة للمبدعين من الصحفيين والكتاب بحيث كانت بمثابة كارت العبور الثانى للشهرة، لدى أبناء الوطن العربى الكبير وليس مصر وحدها، وبالفعل استوعب الصحفى الصغير درس من سبقوه من العملاقة فالتحق على الفور بالإذاعة، لكنه لم يستمر فيها طويلا حتى لاحت له فرصة الالتحاق بجريدة الجمهورية فى بدايات تأسيسها الذى لم يمر عليه سوى سنتين فقط، لكن حلما كان يراوده دائمًا فى الالتحاق بالأهرام.
وسعيا لتحقيق الحلم الكبير تقدم "نافع" بأوراق عمله لجريدة الأهرام، وهو ما يزال ينتمى صحفيا لجريدة الجمهورية، ترك عنوانه ورقم الهاتف الأرضى، وبعد أقل من شهر وصله عن طريق البريد خطابًا رسميًا يحمل طابع المؤسسة بداخله إخطارا بموعد مقابلته بأحد مسئولى الأهرام، بالفعل ذهب مسرعًا والتقى رئيس القسم الاقتصادى الذى عُينه محررًا فيه، ونظرا لجديته ودأبه الشديد على العمل فقد تدرج على مدى عشر سنوات فى المؤسسة من محرر مرورًا بمساعد لرئيس تحرير الأهرام، حتى وصل إلى رأس المؤسسة عام ١٩٧٩م، رئيسا للتحرير ثم فى عام 1984 رئيسا لمجلس إدارتها .
وتعتبر سنة 1984 الانطلاقة الحقيقية لإبراهيم نافع نحو عملقة الأهرام بين الصحف فى المنطقة العربية والشرق الأوسط بكاملها، حيث طوع كل ما امتلكه من صلاحيات لتطوير الأهرام ووضعها فى مصاف الصحف العالمية على مستوى الشكل والمضمون والنظام الإدارى الذى كفل لها الاستقرار طويلا، وقد ساعده على ذلك أن جمع بين رئاسة مجلسى التحرير والإدارة حتى عام 2005، فعلى مدى ستة وعشرين عامًا، تخطت شهرة الصحفى الكبير الإقليم المصري، بعد أن كون علاقات وطيدة مع ملوك ورؤساء أغلب الدول العربية، ولعله حينها كان بمثابة أحد رموز القوة الناعمة لمصر بالخارج.
فى عهد إبراهيم نافع أصدرت الأهرام 18 مجلة وجريدة فى شتى التخصصات "رياضة - مرأة - طفل - شئون عربية" فضلا عن إصدارات أخرى بلغات عدة، فكانت "مجلة الشباب" ثم "الأهرام ويكلى وإبدو" أيضا "طبعتى الأهرام الدولية والعربية"، ونالت المرأة نصيبا لها فى مجلة "نصف الدنيا"، ومجلة "البيت"، ولم يغفل حق الطفل فى إصدار مجلة أسبوعية معبرة عنه فكانت "علاء الدين" وأسبوعية أخرى متخصصة فى الشأن العربى "الأهرام العربي" وأخرى شهرية للتكنولوجيا والإنترنت "لغة العصر" إضافة إلى تطوير مجلة السياسة الدولية والأهرام الاقتصادى، إضافة إلى بعض إصدارات مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية،ومع ذلك لم يغفل الدور الحيوى والهام للصحيفة الأم التى مرت بمراحل تطور متعددة بحيث وزعت الأهرام على مستوى ٦٤ دولة، عزز ذلك فتح ١٦ مكتبا للأهرام على مستوى القارات الأمريكية والأوروبية والآسيوية والأفريقية.
ولقد شهدت مؤسسة الأهرام طفرة حقيقية فى عهد إبراهيم نافع، على مستوى "المعنى" فى شكل إصدارات متنوعة، وعلى مستوى "المبنى" فقد شيد ثلاثة مبانى حديثة إلى جانب المبنى الرئيسى الذى أسسه الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل 1968، وعلى درب نظيره "هيكل" لم يغفل أيضا صناعة الطباعة والنشر، فأسس ٣ مطابع " قليوب - 6 أكتوبر - العامرية بالأسكندرية" بحيث يستكمل صرح الأهرام العملاق مجهزا بأعلى التقنيات والإمكانات حتى أصبح ٩٠٪ من الصحف والإصدارات فى مصر تطبع فى الأهرام وتوزع من خلاله أيضا.
كان إبراهيم نافع - رحمة الله عليه - صاحب فكر ليبرالى حر، منفتحا بشكل واسع على عالمه الحديث والمعاصر، كما كان لديه إيمان راسخ بأهمية البحث والعلم والمعرفة، فأنشأ ثلاث مراكز بحثية جديدة فى هذا الصدد وهى "مركز تاريخ الأهرام" الذى ترأسه المؤرخ الكبير الراحل الدكتور يونان لبيب رزق، و"معهد الأهرام الإقليمى للصحافة" الذى ترأسه الكاتب الصحفى أسامة سرايا الذى تولى رئاسة تحرير الأهرام من بعده مباشرة، و"وكالة الأهرام للخدمات الصحفية"، كما أنشأ لذات الغرض صرحا جامعيا هو جامعة الأهرام الكندية، لتكون إحدى المؤسسات التعليمية الحديثة التى تعنى بتخريج كوادر شابة من الصحفيين والإعلاميين إلى جانب بعض التخصصات التطبيقية الأخرى، ولعلها آخر ما أنجزه "إبراهيم نافع" فى صروح الأهرام قبل أن يرحل عنها فى يوليو ٢٠٠5، تاركا وراءه إرثا هائلا من الإنجازات التى لن تتكرر فى تاريخ تلك المؤسسة أو غيرها من المؤسسات الأخرى.
وتزامنا مع كل هذا الزخم الهائل وتلك النجاحات المتتالية خلال ربع قرن من الزمان، كان "نافع" يحقق انتصارًا مهنيا من نوعٍ آخر، داخل نقابة الصحفيين والتى اختتمها بإقامة مبنى يشهد على إخلاصة لمهنته، بعدما تولى منصب نقيب الصحفيين ست دورات، أعطى خلالها الجميع درسًا عمليا يؤرخ له فى العمل النقابي، وسيظل يرويه التاريخ، حتى إنه خيب ظن من رفضوا ترشيحه لهذا المنصب فى دورته الأولى مخافة أن تتغول علاقته الوطيدة بمبارك على مهنة الصحافة والصحفيين بحيث تنتقص من حرية الصحافة وأبنائها، وخشية تحول النقابة من رافد من روافد حرية التعبير إلى مجرد ناد اجتماعى بلا رؤية وبلا موقف، لكنه خيب ظن معارضيه فى استكمال حرية النقابة وأصبح الصحفى فى عهد صاحب قلم جرئ لايقدر أحد على كسره، خاصة أن إرادة الجمعية العمومية فى عهده كانت "فوق الجميع" هكذا قالها إبراهيم نافع لرئيس الجمهورية خلال اتصال تليفونى بينهما، على خلفية انتفاضة صحفيى مصر ضد قانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥ "قانون اغتيال الصحافة" كما أطلق الصحفيون، لا سيما أنه كرس لعقوبات الحبس فى قضايا النشر بصورة غير مسبوقة لنقيب من قبله.
كان نافع على رأس الانتفاضة والاعتصامات التى استمرت على مدى عام، داخل قلعة الحريات "النقابة"، بل كان وهو المقرب من مبارك ضد قانون مبارك نفسه، فقد أدار المعركة بذكاء شديد، وحنكة أبهرت الجميع، ولعل تحديه للسلطة قد اتسم بالجرأة والشجاعة آنذاك، فقد كانت صفحات الأهرام خلال عام لكبار كتاب الرأى بمثابة قاعدة يطلقون منها قذائفهم على السلطة فى مواجهة القانون، إلى أن انتصرت إرادة الصحفيين، بعد نضال دام عامًا كاملا، وكلل بإسقاط القانون وإصدار تشريع جديد موائما نسبيا لأصحاب الكلمة فى ١٠ يونيو ١٩٩٦ وهو اليوم الذى أصبح من حينها عيدًا للصحفى المصري.
ولم يقتصر نهج إبراهيم نافع نحو التطوير والتحديث، على مؤسسة الأهرام التى يترأسها وينتمى إليها قلبا وقالبا، وإنما كان لعموم الصحفيين نصيب منها، إذ كانت على رأس أولوياته فى دورة مجلس ١٩٩٥، تنفيذ مشروع إقامة مبنى جديد يلبى الاحتياجات المتزايدة للأنشطة الصحفية ويليق بصاحبة الجلالة، ولما كانت علاقاته واسعة استطاع أن يقتنص أقصى ما يُسمح له من دعم رسمى قدر بنحو ١٠ ملايين جنيه، وبالفعل وضع حجر أساس المبنى الجديد فى ١٠ يونيو ١٩٩٧ بالتزامن مع الاحتفال بيوم الصحفى، ليستكمل النقيب الذى أعقبه "مكرم محمد أحمد" المسيرة إلى أن اكتملت هيئته النهائية عام ٢٠٠٢ ليصبح أضخم مبنى لنقابة على مستوى الوطن العربى قاطبة.
رحل إبراهيم نافع عن دنيانا فى مشهد مأساوى لا يليق بما قدم للصحافة والصحفيين، وسواء اتفق معه البعض أو اختلفوا على شخصه، سيبقى تاريخه علامة مضيئة فى تاريخ صاحبة الجلالة، بعدما قدم نموذجا يحتذى لصحفى خدم مهنته وانحاز لأبنائها قبل أى شيء، وسيبقى مشهد الرحيل دراميا يجسد جوانب مأساة ما حدث فى مصر خلال السنوات السبع العجاف الماضية من عمر وطن وأمة أصابتها خيبة الربيع العربى فى مقتل .. رحم الله إبراهيم نافع تلك القامة الكبيرة فى حياتنا الصحفية .