تذهب إليه فينظر إليك نظرة عتاب، سرعان ما يختفى تحت كوم من الحديد، ثم يخرج ويقول لك: للأسف يا أستاذ البارومة سرحت فى العربية.
لا يجد «السمكرى» الذى فحص سيارتك منذ قليل سوى تلك الكلمة، «البارومة سرحت خلاص» وفى تعريفه للبارومة يشرح لك «دى جاية من الطين اللى العربية شربته مع عدم التنضيف مع المياه التى تنتقل للسيارة من الكاوتش فتجعل صاج السيارة دائما فى حالة رطبة، فيتأكسد الحديد ويصدأ» وحينما تسأله عن الأسباب يقول لك بكل ثقة «ده ناتج من الإهمال يا أستاذ» ثم يشرح «عدم تركيب كارتيرة العجل، مع عدم النضافة، مع عدم الحرص أثناء خوض الأماكن المبتلة يفعل هذا وأكثر».
يشرح السمكرى القضية بكل لباقة، يحلل الأسباب، يعرض الحالة الآنية، يصف العلاج الذى لن يخرج عن «البتر» أو الاستبدال، ولا يدرى أنه حينما مضى فى خطبته هذه ليشرح حالة السيارة، وكأنه يشرح حالة مصر.
نعم لقد سرحت البارومة فى المجتمع المصرى، أكلت الأخلاق أولا، خربت فى الوجدان أجمل ما فيه، وضعت الأحادية مكان القلب، وضعت الأنانية مقابل الإيثار، وضعت قصر النظر مكان السعة والرحابة والتسامح، وضعت الأموال مكان الضمير، وضعت العدو مكان الحبيب، وضعت الصراع مكان التآلف، وضعت الكراهية مكان الحقد، وضعت الغيرة والحقد مكان الونس واللمة الحلوة، وضعت الجهامة مكان الابتسامة، سرحت فى الأخلاق فأتت عليها، ثم وضعت مكان المنظومة الأخلاقية منظومة أخرى هى منظومة الفساد، صار للفساد منظومة لا أخلاقية تستبيح المحرمات، وتستحب القاذورات، تبعد عن كل ما هو شريف، وتغرق فى كل ما هو وضيع.
«البارومة سرحت خلاص» وعلاجها الوحيد هو البتر، بتر العناصر الفاسدة، بتر الأخلاقيات المنحطة، بتر الشخصيات العفنة، بتر القلوب الميتة، ثم والأهم من هذا كله، تفعيل جميع عناصر المراقبة والصيانة والفلترة الذاتية.. كم واحد فينا ذهب إلى مطعم أنيق فى أول أيام افتتاحه فأعجب بالأكل والنضافة والتعامل المحترم، ثم بعد ذلك ذهب إلى ذات المطعم فوجد كل ما لا يسر، كم واحد فينا ذهب إلى مدينة جديدة فأعجب بالنظافة والاتساع والتنظيم الجيد، ثم ذهب إلى ذات الموضع فوجد العشوائية هى المهيمنة وحدها، كم واحد منا رأى شابا فى مقتبل العمر وهو يكد ويعمل بكل إخلاص ونشاط وإبداع، وحينما التقى به مرة أخرى فوجئ بأنه تحول إلى مسخ مثل المسوخ التى كان يسخر منها قديما!
السبب واحد، والنتيجة واحدة، والعلاج أيضا واحد، لكن البارومة هى التى تمنعنا من أن نرى الحقيقة واضحة.