منذ 25 يناير لم يتوقف النقاش حول مدى تأثير ثورة الاتصال والمعلومات على مسارات السياسة والسلطة، ومدى تأثيرها، هناك من رأى أن ما جرى كان بتأثير أدوات التواصل وهناك من ينكر ذلك ويرى أنها نتاج تراكمات أخرى تحولت إلى انفجار غير قابل للتحكم.
وخلال سبع سنوات تعددت التفسيرات عما إذا كانت الثورة ناجحة أم فاشلة، والواقع أن الوقت مبكر جدا لتقييم أى حدث، وهناك تحولات بانت نتائجها بعد عشرات السنوات والعقود، فالثورة الروسية بعد 70 عاما انتهت إلى مسارات أخرى، ولا توجد ثورة ناجحة وأخرى فاشلة لكن توجد تراكمات وتغيرات وتقدم وتراجع، وما كان سائدا فى الخمسينيات والستينيات، يختلف عما هو مطروح فى التسعينيات وما بعد بزوغ الألفية.
ربما يكون أهم نتائج الأحداث أنها كسرت الكثير من توقعات بثبات الأحوال، كما أنها كانت كاشفة عن الفرق بين الواقع والمتخيل، وطبيعى أن تختلف الاتجاهات لكل فصيل حسب مطالبه، أو مصالحه.
وبقدر ما بدا عالم التواصل الاجتماعى زحاما تعدديا، بقدر ما يبدو أحيانا مجرد أفراد لكل منهم اتجاه، وبقدر ما تبدو صورة الميدان مشهدا رومانسيا، فهى أيضا تخفى تناقضات بحجم هذا الزحام نفسه، هناك يسار ويمين ووسط، علمانى ودينى، رومانسى وواقعى، راديكالى وإصلاحى.. كل هؤلاء تفرقوا إلى مجموعات، لكل منهم تصوره الخاص.
شكلا كان هناك اتفاق على التغيير، لكن شكل هذا التغيير يختلف من فصيل لآخر، عيش حرية عدالة، مفاهيم تختلف لدى كل تيار عن الآخر، الشيوعى غير الليبرالى، ورجل الأعمال غير الموظف والعامل غير الطبيب، والسلفى غير الناصرى. حتى الأغانى التى بدت موحدة، هى نفسها مثار خلاف، وكل هؤلاء تفرقت بهم السبل، وأحيانا ما تتسم الحوارات عن الديمقراطية بقدر كبير من الصدام والتسلط.
من يتابع شكل وتطور العالم كله خلال السنوات الثلاثين الأخيرة يمكنه اكتشاف أن ما جرى كان فى جزء منه فرضا قدريا، له إيجابيات وسلبيات، وإن كان زمن كتابة التاريخ لم يحن بعد، وحتى بعض المحللين الذين عالجوا الحدث فى وقته، غيروا من تصوراتهم. ومن يقرأ كتاب «جون برادلى» الذى توقع فيه أن تحدث ثورة فى مصر، عاد فى كتابه «ما بعد الربيع العربى»، ليشير إلى كيفية إفساد هذا الربيع، بسبب طمع الإسلاميين وركوبهم على الأحداث، ونقلها نحو الصراع والطائفية.
الظاهر على الأقل يشير إلى نتائج متعددة، أهمها أن ما بعده، ليس مثل ما قبله، وأن مابدا أنه واقع نهائى للسلطة فى الدول العربية، لم يعد كذلك، وأن الجماهير لها صوتها، وهو صوت متعدد، أهم ما جرى أن شكل السلطة القديمة لم يعد موجودا، وأن التغيير حتمى، ومهما كانت الرغبة فى مقاومة هذا لا يمكن إيقاف عجلة الزمان، ثم إن هذا التحول لا يتعلق فقط بتحرك جماهيرى، ولكن أيضا بحكم الواقع، حيث لم تعد الأشكال القديمة التى استقرت للحكم قابلة للاستمرار، وهناك عوامل داخلية وأخرى خارجية، تظهر من حجم الغليان الذى تشهده المنطقة العربية طوال السنوات السبع، بل إن التحولات تصيب أوروبا وأمريكا وهو ما ظهر فى شكل الانتخابات وحجم الصراع وبزوغ روسيا وتقدم الصين، وصعود الصراع الاقتصادى ليحل مكان صراعات النفوذ التقليدية، فى عصر الإنتاج الواسع والتكنولوجيا الرقمية.
والواقع أن علماء المستقبليات توقعوا هذا كله قبل عقود، ومن أبرز من حاولوا ذلك كان المفكر الأمريكى ألفين توفلر، الذى انشغل مبكرا بمحاولة فهم تحولات العالم، منذ منتصف القرن العشرين وزحفها ببطء، ثم انفجارات التكنولوجيا التى أصابت بصدمتها العالم الذى بدا مستقرا.
فى كتابه «صدمة المستقبل» عام 1970، كان توفلر يشير إلى أن التغيرات التكنولوجية والاتصالاتية والتليفزيون تنقل البشر إلى مرحلة ثورية بمثابة صدمة كبرى، تفقد البشر توازنهم، وبعد عشر سنوات كان حديث «الموجة الثالثة»، حيث تشكل التكنولوجيا الموجة الأكثر زلزلة، بعد موجة الزراعة الأولى والثورة الصناعية الموجة الثانية، ثم تأتى الموجة الثالثة لتمثل قفزة تتجاوز تأثيراتها بمراحل الثورة الصناعى، يحل الاقتصاد الرمزى محل المداخن وتبزغ مصادر جديدة لتوليد الثروة لتغير من تركيبة السلطة بشكل جذرى بمكوناتها الأساسية القوة المباشرة أو فوهة البندقية، والثروة، والمعرفة ممثلة فى الإعلام ورجال الدين والمثقفين والاتصالات، والتى تهز السلطة المستقرة على مدى عقود، عندما أصدر توفلر كتابه عام 1990، كان الاتحاد السوفيتى فى سبيله للخروج من الحرب الباردة واليابان والصين تصعد كمنافس قوى لأمريكا.
ولا يمكن تجاهل تأثير ثورة الاتصالات والتقنية على شكل السلطة فى العالم، لكنها كانت بمثابة بركان، تراكمت قواه لتنفجر بسرعة، كانت موجات الربيع العربى إحدى نتائج هذا التحول، وما تزال تواصل تفاعلاتها، ويفضل النظر إليها ضمن خرائط أوسع، والنظر إلى مصر وسط ما يجرى فى تونس وليبيا وسوريا واليمن والعراق، وما يجرى فى دول الخليج وتحولات عصر النفط، وحتى الاتحاد الأوروبى الذى بدا قدريا، أصابته التحولات وتخرج منه بريطانيا، وتتصاعد تيارات تطالب بالانفصال فى ألمانيا وفرنسا، ومن كانوا يرون أمريكا نهاية التاريخ، يعترفون بأنها تواجه منافسة أوسع.
كل هذا يعنى أن حالة الغليان ما تزال قائمة، وتبدو أكبر من مجرد صورة وتعليق.