منذ اختفائه فى الخامس والعشرين من يناير العام الجارى وحتى ظهور جثته فى الثالث من فبراير، شغلت قضية مقتل الطالب الإيطالى "جوليو ريجينى" الراى العام المصرى والعالمى على حد سواء، طيلة تلك الفترة _ويبدوا ان تلك الفترة ممتدة لأمد بعيد_، وعلى مدار الشهر والنصف الماضيين من التحقيقات المستمرة شهدت القضية العديد من التطورات الهامة، كان ابرزها زيارة النائب العام لروما ومساعده للقاهرة للإطلاع على أخر ما توصلت اليه التحقيقات فى ذلك الشأن، فضلاً عن قرار البرلمان الأوروبى الذى ندد بوضع حقوق الأنسان فى مصر متخذاً من قضية "ريجينى" ذريعة له.
وعلى الرغم من رفض مصر لما جاء بقرار البرلمان الأوروبى على لسان أحمد أبو زيد المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، والذى وصف القرار بانه غير منصف ويحمل "إيحاءات مرفوضة"، الا ان تعامل أجهزة الدولة مع قضية الطالب الإيطالى وخاصة جهازها الأمنى تثير الشبهات حول مقتله، خاصة فى ظل المعلومات المقتضبة التى أدلت بها تلك الأجهزة للجهات الإعلامية وتأرجح تلك المعلومات بين نفيها من بعض الجهات وتأكيدها من جهات أخرى و يكأن كل جهة تعمل باستقلالية عن غيرها.
فالمتتبع لسير قضية مقتل "جوليو ريجينى" على علم بان جثته ظهرت فى الـ3 من فبراير بطريق القاهرة-أسكندرية الصحراوى، وفور ظهور جثته خرج مسؤلى الأمن فى مصر ليرجعوا سبب الوفاة الى حادث سير، على الرغم من ان النيابة العامة قد أكدت بان مناظرة جثة الطالب قد أشارت الى وجود أثار ضرب وتعذيب وهو ما لا يتسق مع السيناريو الذى نسجه الأمن، ليتم استبعاده فى اليوم ذاته ويظهر سيناريو أخر وهو سيناريو الشذوذ الجنسى.
وفى الثامن من فبراير انفرد موقع "اليوم السابع" بنشر ملامح تقرير الطب الشرعى الخاص بتشريج جثمان الطالب الإيطالى، والذى اشار الى عدم وجود علامات تدل على شذوذ "جوليو" الجنسى، وأكد وجود اثار تعذيب وصعق كهربائى بمناطق حساسة بالجسد، ليخرج بعدها مسؤلين كبار بمصلحة الطب الشرعى والنيابة العامة وينفوا صحة ما جاء بالتقرير، وتمر الأيام ويضطروا للاعتراف على استحياء بصحة ما جاء به، ولكن بشكل غير رسمى محمولاً بشئ من "الميوعة"، حيث قال مصدر قضائى فى تصريحات لـ"انفراد"، ان تقرير الطب الشرعى اثبت وجود اصابات واثار ضرب وتعذيب فى جثة الطالب الايطالى ولكنه لم يحدد كيفية حدوث تلك الاصابات او الآلات المستخدمة فى احداثها.
استمرت تحقيقات النيابة العامة فى القضية على مدار 10 أيام استمعت خلالها لأقوال والديه وعدد من أصدقائه ومعارفه وتداولت اقوالهم فى وسائل الأعلام المختلفة والتى جاءت فى مجملها معبرة عن شخصية "جوليو" وطبيعة دراسته فى مصر وعن قائمة علاقاته المجهولة والمعلومة منها ونفت ان يكون له اى نشاطات مشبوهة، ولكن كان هناك لغز مفقوداً فى القضية، قد يمثل مفتاح هاماً فى سبيل الوصول لـلقاتل المجهول، من عثر على جثة "جوليو"؟.
انتبهت أجهزة الأعلام لذلك اللغز وأخذت تطرح ذلك السؤال وتسوق له ولكن لا إجابة، الى ان ظهر فى اليوم التالى مباشرة وعقب تداول السؤال اعلامياً، السائق الذى عثر على جثته، وتحديداً فى الثانى عشر من فبراير الماضى، ليثير تساؤل اخر لماذا اختفى السائق طيلة تلك الفترة؟، ولماذ لم يظهر الا عقب تسليط الضوء عليه؟ومن حرص على اخفائه واظهاره فى ذلك الوقت؟، علماً بان السائق اكد فى تحقيقات النيابة انه فور عثوره على جثه جوليو أجرى اتصالاً هاتفياً بمالك السيارة التى يقودها، والذى قام بدوره بابلاغ الأجهزة الأمنية بالعثور على الجثة، محدداً مكان العثور عليها؟.
هنا يجب ان نتوقف فثمة اتصالان هاتفيان تما أحداهما من سائق السيارة لمالكها والأخر من مالك السيارة بالجهات الأمنية أخبرهم بالعثور على الجثة، هنا شخصان على علاقة وثيقة الصلة بالقضية لم يظهرا الا بعد 7 أيام من العثور على الجثة على الرغم من سهولة التوصل اليهم من خلال تتبع المكالمات الهاتفية التى صدرت من السائق لمالك السيارة، ومن مالك السيارة للجهات الأمنية، وربما الجهة التى اتصل بها مالك السيارة لديها خاصية "اظهار رقم الطالب"، فتجرى اتصال هاتفياً به وتستدعيه للشهادة، على اية حال فقد ظهر السائق وادلى بشهادته ولكنه حرص عقب الإدلاء بشهادته على الاختفاء مجدداً، حاولنا التواصل معه فاجرينا اتصالاً هاتفياً به الا انه تهرب وأغلق هاتفه المحمول بعدما أدعى عدم صحة الرقم الذى تم الاتصال به، شائنه شأن أصدقاء "جوليو" الذين رفضوا الحديث لوسائل الأعلام بل وغادر بعضهم البلاد عقب الحادث.
هدأت القضية فرفعت الأقلام وجفت الصحف مؤقتاً، ورقدت الأحبار فى بحيرة الأجهزة الأمنية وجهات التحقيق ولم يعلن عن اى جديد، حتى عصر يوم الخميس قبل الماضى الذى وافق العاشر من مارس الجارى، حينما خرج البرلمان الأوروبى بإدانة شديدة اللهجة واصفاً ما تعرض له "جوليو" بالتعذيب والاغتيال تحت ظروف مريبة، مطالبا بوقف المساعدات عن مصر، وبذل كل جهد لضبط مرتكبي الجريمة وتقديمهم للعدالة والمحاكمة في أسرع وقت، هنا وفى أقل من 48 ساعة تظهر معلومات جديدة فى غاية الأهمية تناقلتها وسائل الأعلام مفادها، التقاط أحدى كاميرات المراقبة بمنطقة الاسعاف للطالب الإيطالى اثناء تشاجروا مع أحد أصدقائه، لتصبح تلك الكاميرات حديث الساعة والقشة التى يتعلق بها الغريق املاً فى النجاة.
وفى غضون 24 ساعة اخرى يظهر المهندس المدنى محمد فوزى، والذى ادعى رؤيته للمشاجرة التى نشبت بين "جوليو" وصديقه، فتوجه للنيابة العامة وأدلى باقواله والتى جاء فيها انه فى يوم الرابع والعشرون من يناير شاهد مشاجرة عنيفة بين الطالب الإيطالى وشخص أخر استمرت لما يقرب من 15 دقيقة وبعدها انصرفوا سوياً، ويتوجه بعدها الشاهد لأستوديو "صدى البلد" ضيفاً على الإعلامى أحمد موسى مقدم برنامج "على مسئوليتى" متحدثاً عن شهادته، مغتراً ببراعته التى مكنته من التعرف على المشتبه به الذى تشاجر مع "جوليو" من بين 150: 200 صورة عرضوا عليه، لتستدعيه بعدها النيابة وتثبت كذب ادعائته، بل واكثر من ذلك اختلاقه واقعة التعرف على المشتبه به من بين 200 صورة لم تعرضها عليه النيابة فى الأساس، وحينما واجهته بالأسباب التى دفعته الى فعل ذلك قال:"انا عملت كده علشان أفيد البلد".
يأخذنا ما سبق الى عدة اسئلة أولها، لماذا ظهرت تلك المعلومات بعد ضغط البرلمان الأوروبى وتزامناً مع زيارة نائب عام روما لمصر؟ولماذا لم تظهر قبل ذلك؟ومن ذا الذى أقنع الشاهد بانه حينما يدلى بتلك المعلومات الوهمية فهو يفيد البلد؟، اذا ربطنا تلك الاسئلة بطبيعة ما دار فى الاجتماع الذى ضم النائب العام المصرى وفريق تحقيق النيابة العامة، بنائب عام روما ومساعده _الذين جاءوا الى مصر غاضبين_ فى الرابع عشر من مارس الجارى، والذى دار حول تلك المعلومات الجديدة التى ظهرت والكاميرات التى قيل انها التقطت المشاجرة الوهمية التى نشبت بين "جوليو" و صديقه، وعن شهادة المهندس المدنى الذى شاهد المشاجرة وثبت فيما بعد كذب ادعائه، فلن نصل الا الى نتيجة واحدة مفادها ان تلك المعلومات الكاذبة التى ظهرت والمتمثلة فى الشاهد الوهمي والكاميرات التى لم تلتقط شئ، ما هى الا محاولة فاشلة لتهدئة الراى العام العالمى.