يعد يوم 13 يونيو 1906، أحد أهم الأيام التى لن ينساها التاريخ المصرى الحديث، لما وقع فيه من أحداث مؤسفة، وعلى رأس تلك الأحداث هى حادثة "دنشواى" التى لا تعد واقعة بين أهالي قرية فقيرة عزل وبين رجال وطغاة الاستعمار فحسب بل تاريخ شعب واجه الإحتلال ببسالة منقطعة النظير .
فى مثل هذا اليوم، وقعت الطامة، حيث بدأت الوقاعة بقيام خمسة جنود بريطانيين بصيد الحمام بالبلدة، وعندما طالبهم مؤذن القرية بالابتعاد عن الأجران التي يحوم حولها الحمام لم يفهموا كلامه وأطلق عليه النار فأصيبت زوجة شقيقه واشتعلت النار في التبن، فهجم الرجل على الضابط فتجمهر أهالي القرية.
وفى غضون ذلك، أخذ الضباط في إطلاق النار نحو الأهالي وحاولوا الفرار إلا أن أحدهم أصابته ضربة شمس، وحاول الفلاحون إنقاذه إلا أنه توفى متأثرا بإصابته، وعلي أثر ذلك، قدم 52 قرويا للمحاكمة بجريمة القتل العمد، وتم إثبات التهمة على 32 منهم في 27 يونيو 1906 وتفاوتت الأحكام فيما بينهم وكانت معظم الأحكام بالجلد والبعض حكم عليه بالأشغال الشاقة وتم إعدام 4 قرويين.
أبطال تلك الحادثة من المصريين الذين سجلوا اسمائهم بحروف من دم وعار، هم بطرس غالي، إبراهيم الهلباوي، أحمد فتحي زغلول، الأول من داخل جدران القضاء، بطرس غالي، حيث ترأس المحكمة التي أصدرت الأحكام الجائرة على فلاحي مذبحة دنشواي، كان غالي وزيرًا لخارجية مصر في عهد المعتمد البريطاني لورد كرومر، ثم رئيسًا للوزراء، وتعد حادثة اغتيال بطرس غالي ثاني عملية اغتيال في تاريخ مصر الحديث بعد اغتيال كليبر.
حزمة من الأسباب أدت إلى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق في هذا الوقت، أولها أنه وقع مع المعتمد البريطاني اللورد كرومر على اتفاقية الحكم المشترك للسودان بين مصر وبريطانيا، وترجع أهمية هذه الاتفاقية إلى أنها أعطت صلاحيات للإنجليز أكبر من الجانب المصري في حكم السودان، كما أنها كانت تعني فعليًا انفصال السودان عن مصر للأبد، وهو ما كان يمثل خسارة إستراتيجية واقتصادية كبيرة لمصر، لذلك نظر كثير من المصريين لهذه الاتفاقية على أنها الصك الذي تخلت مصر بمقتضاه عن معظم حقوقها في السودان لإنجلترا، وتحمل بطرس غالي وزر هذه الاتفاقية على اعتبار أنه الموقع من الجانب المصري.
أما السبب الرئيسى والأهم يعود إلى ترأس بطرس غالي للمحكمة التي شكلت لمحاكمة أهالي دنشواي بعد حادثة دنشواي التي أصيب فيها ضابط إنجليزي برتبة كابتن بضربة شمس ومات، بعدما أصدرت هذه المحكمة أحكام قاسية وجائرة على بعض أهالي دنشواي تمثلت في الحكم بالإعدام على أربعة منهم والأشغال الشاقة بمدد مختلفة على 12 منهم وبالجلد على خمسة متهمين.
ومن ضمن هذة الأسباب هو لعبه دورا هاما مشروع مد امتياز قناة السويس لمدة 40 عامًا أخرى في مقابل عدة ملايين من الجنيهات تدفعها شركة قناة السويس للحكومة المصرية ونسبة من الأرباح من عام 1921 إلى 1968، وحاولت حكومة بطرس غالي إخفاء الصفقة عن الرأي العام المصري، ولكن محمد فريد حصل على نسخة من المشروع في أكتوبر عام 1909م، فقام بنشرها في جريدة اللواء.
أما أول نقيب للمحامين وهو إبراهيم الهلباوي الذى كان يعد بمثابة شيخ المحامين في ذلك الوقت، وأكثرهم شهرة، وعقب أحداث دنشواي وتقرير الإنجليز بأن تقوم محكمة مخصوصة بمحاكمة المتهمين فقد قام المستشار ميتشل سكرتير الداخلية الانجليزي بسؤال الهلباوي عما إذا كان قد وُكل من قِبل أحد من المتهمين في دنشواى فلما نفى ذلك أخبره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها في "إثبات" التهمة ضد المتهمين.
وتقاضى الهلباوى أتعابه فى تلك الواقعة من الإنجليز، حيث كان يتقاضى 500 جنيه في القضايا الكبرى إلا أنه خفض أتعابه في هذه القضية فقبل أن يترافع فيها بـ 300 جنيه فقطنظير وقوفه الى جانب اخوانه من الإنجليز.
وفى خلال المحكمة التى وصفت بالهزلية، وقف الهلباوى يترافع عن الاحتلال ضد وطنه وعن الصيادين ضد ضحاياهم ولم يخطئ مرة واحدة فيلتمس العذر للبؤساء من أهل دنشواي فيما فعلوه فالقضية كما صورها هي صراع بين ضباط إنجليز خيرين طيبين شجعان وبين فريق من الهمج المتوحشين، ضباط ينتمون لجيش الاحتلال الإنجليزي الذي "حرر" المصري وبين هؤلاء السفلة من فلاحى دنشواى" هكذا ترافع الهلباوي، عمر طويلا بعد الحادث لأكثر من ثلاثين عاما ذاق خلالها الذل والهوان.
أما الشخصية الثالثة وأحد أهم أبطال تلك المحاكمة الهزلية، هو أحمد فتحي زغلول، حيث لم يعرف عنه التاريخ سوى موقف واحد، كان موقفًا كفيلًا بتشويه تاريخه كله، 51 عامًا هي عمره كله، لكنه ترك بصمة واضحة في ''كتاب التاريخ''، هذا الكتاب الذي لم يذكر في المدارس دوره في ''حادث دنشواي 1906''، واكتفى برميها على عاتق ''الاحتلال الإنجليزي''، رغم أن ''هيئة المحكمة'' كانت مصرية، وصدر الحكم من شقيق ''زعيم وطني"، أحمد فتحي زغلول بك'' هو الشقيق الأصغر للزعيم المصري الوطني ''سعد زغلول باشا" .
اتخذ ''فتحي'' طريقًا يدعو للاستفادة من الإنجليز على أرض مصر إن لم تستطع الحركات المقاومة إخراجهم، وبعد يوم "14 يونيو 1906" الشهير، جاء "زغلول'' قاضيًا للمحكمة المشكلة لمعاقبة المتهمين من أهالي قرية ''دنشواي"
رقى ''أحمد فتحي زغلول'' لمنصب وكيل وزارة الحقانية، وحصل على رتبة ''الباشوية''، وفي حفل الترقية الذي أقامه له زملائه وبعض شخصيات المجتمع بفندق ''شيبرد''، دُعي أمير الشعراء ''أحمد باشا شوقي'' لإلقاء أبيات لتكريم ''فتحي زغلول''، فرفض المجيء وأرسل مظروفًا مغلقًا ليُقرأ على الجمع الحاضر، كتب فيه: ''خذوا حبال مشنوقٍ بغير جريرةٍ وسروال مجلودٍ، وقيد سجين، ولا تعرضوا شعري عليه، فحسبه من الشعر حكمٌ خطه بيمين، ولا تقرأوه في ''شبرد'' بل اقرأوا على ملأٍ في دنشواي حزين.