قد يرى البعض وأنا منهم، أن الولايات المتحدة الأمريكية، منذ استقلالها لم تنكسر أو يشعر مواطنوها بالانتكاسة، ولكن القارئ فى تاريخ أمريكا يؤكد أنه مرت بعشرات من الهزائم التى انعكست على الشخصية الأمريكية، وإصابتها بالانكسار والانتكاسة لاتقل تأثيرها عما حدث لنا عقب هزيمة مصر فى يونيو 1967 والفرق بيننا وبين الأمريكان أننا شعب يتلذذ بالمصائب، ويحب أن يعيش بعقدة الاضطهاد ونظل نعيش فى دوامة الحزن ولا نخرج أبدًا حتى لو حققنا ألف انتصار وهو ما حدث للمصريين، فبالبرغم من أننا نجحنا فى هزيمة العدو الإسرائيلى فى أكتوبر 1973 إلا أننا وحتى الآن مازلنا نعيش بعقدة نكسة يونيو، أما الأمريكان فهم يستغلون الانتكاسات لصالحهم ولهذا فإنه من النادر أن يشعر المواطن الأمريكى بمرارة الهزيمة والانكسار، السؤال، وفى الدراسة التى وضعها المؤرخ روبرت كاجان–وترجمها وقدمها الباحث بمكتبة الإسكندرية محمد مسعد العربى ونشرت فى مجلة السياسة الدولية نجد الكثير من الأسئلة، القلق الأمريكى من صعود أى قوة وكيف يمكن استخدامها كمرحلة أولى لتحقيق النصر فعلى سبيل المثال يرى الباحث كاجان أن حجم الاقتصاد المحض ليس مؤشرًا جيدًا على ميزان القوة النسبية فى النظام الدولى.
فالصين نفسها كانت أكبر اقتصاد عالمى فى بداية القرن التاسع عشر، لكنها وقعت فريسة للأمم الأوروبية الأصغر منها. وحتى لو قفزت الصين لقمة الاقتصاد العالمى مرة أخرى، فسيواجه قادتها حتمًا مشكلات فى النمو، ومن ثم سيكون من الصعب عليها أن تلحق بأمريكا وأوروبا من حيث نصيب الفرد من الناتج القومى الإجمالى.
يتناول كاجان وضع أسس القوة الأمريكية حاليًّا. فرغم حالة الركود الحالية، فإن المركز الاقتصادى للولايات المتحدة لم يتغير، فلا يزال نصيبها من مجمل الإنتاج العالمى كما هو فى العقود الأربعة الأخيرة منذ عام 1969، ولا تزال تنتج تقريبًا ربع الإنتاج العالمى، ولا تزال هى الاقتصاد الأغنى والأقوى فى العالم ولكن البعض يتحدث عن الصعود الاقتصادى للهند والصين وبعض القوى الآسيوية الأخرى التى يتزايد نصيبها فى الاقتصاد العالمى، غير أن صعود هذه القوى إنما يأتى على حساب أوروبا واليابان اللتين تراجع نصيبهما فى الاقتصاد العالمى.
والمتفائلون بصعود الصين يتنبأون بأنها ستحل محل الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد عالمى، وهو ما يعنى أن الأخيرة ستواجه تحديات لوضعها الاقتصادى فى المستقبل، ولا يزال ميزان القوة العسكرية يميل لصالح أمريكا، فلا يوجد إلى الآن قوة تعادل قدرات الولايات المتحدة، ولا يوجد أى تدهور فى القدرات العسكرية الأمريكية، ولا يزال حجم الإنفاق على الدفاع فى الولايات المتحدة الذى يبلغ 600 مليار دولار فى العام هو الأعلى فى العالم، ولا تزال القوات الأمريكية البرية والبحرية والجوية هى الأكثر تقدمًا فى تسلحها، ومن ناحية أخرى، لا يعنى صعود بعض القوى اقتصاديًا أنها ستنافس الولايات المتحدة على نفوذها فى المسرح الدولى، فلا توجد علاقة حتمية بين القوة الاقتصادية والنفوذ السياسى. فالهند الفقيرة تحت قيادة نهرو كانت أكثر تأثيرًا من الهند الحالية.
كما أن الأمر يتوقف على القوة النامية، وهل هى معادية أم لا. ففى أثناء الحرب الباردة، أدى الصعود الاقتصادى لألمانيا واليابان إلى تراجع نصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمى الإجمالى إلى النصف، غير أن ازدهار اقتصاد الدولتين كان فى مصلحة الولايات المتحدة فى مواجهة الاتحاد السوفيتى. وبالمثل، فنمو البرازيل وتركيا لا يتقاطع مع المصالح الأمريكية، ونمو الهند يعد فى مصلحتها، لأنه فى مواجهة المنافس المستقبلى لها وهو الصين.
أما نمو الاقتصاد الصينى، فيمثل خطورة، إذا تمت ترجمته بالقدر الكافى إلى قوة عسكرية، ويفند كاجان مقولة يعتمد عليها الاتجاه الذى يقول بتراجع القوة الأمريكية، وهى أنه كان هناك وقت ما كانت الولايات المتحدة قادرة فيه على تشكيل العالم ليتوافق مع إرادتها، وأن تجعل الأمم الأخرى تفعل ما تريد، وأنها كانت تقوم «بإدارة ترتيبات الأمن والاقتصاد والسياسة فى كل العالم».
يقول كاجان إن مثل هذا الاعتقاد ليس إلا وهمًا رومانسيًا، فمثل هذا الوقت لم يوجد قط، وإنما تشكلت الهيمنة الأمريكية فى العالم عبر سلسلة من تواكب النجاحات والإخفاقات. وإذا نظرنا للسنوات الأولى من الحرب الباردة، حيث استطاعت أمريكا أن تحقق هيمنة كاملة على شؤون العالم، فسنجد أنها استطاعت تحقيق العديد من الإنجازات الفائقة، مثل مشروع مارشال، وتأسيس الناتو، وإنشاء الأمم المتحدة، وتأسيس نظام بريتون وودز الاقتصادى، وهو ما يشكل العالم كما نعرفه حاليًا، إلا أنه بالمقابل كانت هناك لحظات من الانتكاس، ففى عام 1949، نجحت الثورة الشيوعية فى الصين، وكسر الاتحاد السوفيتى الاحتكار الأمريكى للسلاح النووى، ثم تورطت الولايات المتحدة فى الحرب الكورية، وفقدت 35 ألفا من جنودها. وفى الخمسينيات، اجتاح الأمريكيون القلق من التدهور النسبى لقوتهم إزاء صعود قوة المعسكر الاشتراكى، كما أنها فشلت فى إقناع حلفائها الغربيين بعدم الاعتراف بحكومة الصين الشعبية.
أما القوة الناعمة الأمريكية، فلم يكن هناك دائمًا هذا الإعجاب المتخيل بالنموذج الأمريكى، وليس من الصحيح أن بقية العالم حاولوا أن يحاكوا هذا النموذج. فآلة الإعلام الأمريكية- رغم أنها أسهمت فى انتشار الثقافة الأمريكية- إلا أنها لم تنجح سوى فى تصدير صورة سيئة لأمريكا. فقد بث التليفزيون الأمريكى فى الخمسينيات صور جلسات ماكارثى لصيد الشيوعيين، ثم غلبت صور ممارسات العنصرية البيضاء على شاشاته، ثم غلبت مشاهد العنف والاغتيالات. وغدًا إن شاء الله نواصل كشف المزيد عن الشخصية الأمريكية وعلاقاتها بالعالم من أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية قوى عظمى.